هيمنة العنف .. قاعدة الحياة الأزلية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غريزة البقاء بين الفلسفة والعلم.

ليست عبارة «كل شيء يريد أن يعيش» تعبيرًا عن فكرة فلسفية مجردة خطرت ببالنا، بل هي حقيقة بيولوجية وسوسيولوجية تتجلى في جميع أشكال الحياة وتنظيماتها، كما هو بادٍ للملاحظة العلمية والفلسفية، بدءًا من الفيروسات إلى البشر. يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في كتابه «إرادة القوة» (1883) أن الحياة نفسها هي تعبير عن إرادة البقاء والسيطرة والهيمنة، وهي في الواقع محرك كل السلوك والسعي الإنساني. فالحياة: «هي إرادة القوة، فكل كائن حي يسعى إلى توسيع نطاق وجوده، حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين». لا فرق في ذلك بين البشر والحيوان إلا بمقدار توسع سيطرة العقل والحكمة. أما عالم الأحياء ريتشارد دوكينز، فيطرح في كتابه «الجين الأناني» (1976) فكرة كون الغريزة الأساسية لأي كائن تتمثل في حماية جيناته ونشرها، مما يفسر السلوكيات العدوانية أو الهجومية حسب الظروف، لدى كل المخلوقات الحية كيفما كانت، وإن اختلفت العدوانية والعنف من حيث الصيغة والدرجة والكيفية.

تظهر غريزة المحافظة على البقاء والعنف من أهم جوانبها بأشكاله المتعددة، في سلوكيات البشر بطرق معقدة، سواءً عبر الصراع على الموارد أو السعي إلى الأمن الاجتماعي. أوضح وأعقد مظاهر هذه الغريزة على مستوى الدول مفهوم الأمن القومي، الذي تحدده الدول وفقًا لقوتها، حيث يمتد للقوى البحرية آلاف الكيلومترات خارج حدودها الجغرافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين مثلًا.

في سياق هيمنة العنف بمحرك غريزة المحافظة على البقاء، يواجه الإنسان منذ ظهور الثقافة بمعناها الواسع السؤال التالي: كيف يمكن تحويل غريزة البقاء من دافع للعنف إلى قوةٍ تعزز التعايش الإنساني، وتمكنه من السيطرة على العنف وتدجينه وتحويله؟

الفن والثقافة كجسر للتعايش.

يبين لنا التاريخ العام للبشرية أن للفنون دورًا في تحويل الغريزة العنيفة إلى إبداع فني يحقق الذات ويصرِّف ما تحمله من طاقة سلبية مدمرة. فالفن والثقافة، عموما بصيغة الجمع، ليست ترفًا، بل هي أدوات فعّالة لتحويل طاقة البقاء العدائية والعنيفة المتأصلة في الإنسان باعتبار بعده الحيواني، إلى تعبيرات إنسانية راقية وحضارية. ويؤكد الروائي الفرنسي ألبرت كامو في مؤلفه «الإنسان المتمرد» (1951) أن: «الفن تمردٌ ضد العبثية، إنه محاولة لخلق معنى في عالم قد يبدو غير مبالٍ بوجودنا».

يمكن للإنسان المتحضر إعادة صياغة المفاهيم العدوانية وغرس قيم التسامح من خلال السينما، والأدب، والموسيقى، إلخ، التي تتسامى بالطاقة العدوانية لتبدع تعابير فنية تصرف الإنسان نحو قيم ممتجة للفكر وللفن ولأساليب تدبير وتسيير للوجود المستمر والمتواصل والملائم لبيئة متوازنة وجميلة ونافعة للجميع. في هذا السياق، تظهر دراسات نفسية، مثل تلك التي أجراها ستيفن بينكر في كتابه «الملائكة الأفضل في طبيعتنا» (2011)، أن المجتمعات التي تتبنى الفنون تشهد انخفاضًا في معدلات العنف، لأن الفن يعزز التعاطف ويفتح نوافذَ على تجارب الآخرين التي تبني جسور فهم متبادل بين الأنا والغير، وهو ما يبعد أشباح حل النزاعات بالعنف وقمته الحروب في أبشع أشكالها مثل الإبادة الجماعية.

لكن، هل الثقافة والفن كافيان لوقف العنف؟

رغم قوة الفن والفكر وفعاليتهما، فإنهما يواجهان تحديات في مجتمعات تعاني من الفقر والجهل واللاعدالة والقمع، أو التطرف والغلو وسيطرة الفاشية والنازية والديكتاتورية. يحذر الفيلسوف هربرت ماركوزه في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» (1964) من أن الثقافة قد تتحول إلى أداة لتهدئة الجماهير بدلاً من تمكينها، خاصة إذا تم تسييسها أو احتكارها من قبل النخب. يحدث هذا الأمر في استغلال ماكر للتكنولوجيات الجماهيرية التواصلية اليوم، لنشر التضليل في كل شيء: الخبر والمعلومة وتحليلهما. يحيلنا ما سبق على السياسة والدبلوماسية وممارسيها الذين لا مقياس لهم غير المصلحة القطرية أولًا.

الدبلوماسية والسياسة: بين الصراع والتعاون

هل الدبلوماسية الموازية وسيلة واستراتيجية لتخفيف النزاعات، أم أنها في الواقع آلية لتحقيق الاستراتيجيات القطرية المحكومة بغريزة البقاء والهيمنة؟

ليست الدبلوماسية حكرًا على الحكومات، بل يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا حاسمًا من خلال صياغتها وفقًا للقيم التي يدافع عنها، وهي السلم والتسامح والتعايش والعدالة الدولية باحترام القانون الإنساني. تشرح الباحثة جوزيفا نايتوناي في كتابها «الدبلوماسية الشعبية» (2018) كيف يمكن للحوار بين الثقافات: «أن يزيل سوء الفهم الذي يغذي الكراهية، خاصة عندما يأتي من القواعد الشعبية وليس من الأجندات السياسية. فالثقافات الشعبية المتراكمة عبر قرون من صراعات البقاء تركت عنفًا في الشعور واللاشعور الجمعي، من الصعب التخلص منها، ناهيك عما تنشره وتعمقه سياسات ضيقة الأفق الإنساني في أزمنة الأزمات خاصة، كما يعلم تاريخ الحروب التي ارتبطت بأزمات اقتصادية قارية أو عالمية متعددة، منها أزمات الرأسمالية الدورية، وأزمات الجفاف والأوبئة وغيرها».

ما الذي يمكن أن تقدمه سياسات التنمية المستدامة التي تفكر في المستقبل بغيرية وبحكمة وحكامة ضد هيمنة العنف؟

التنمية المستدامة كضمانة للاستقرار

زادت وتزيد السياسات الاقتصادية غير العادلة عبر التاريخ من حدة الصراعات العالمية الدامية والعنيفة. ويوضح الخبير الاقتصادي أمارتيا صن في كتابه «التنمية حرية» (1999) بأن الفقر ليس مجرد نقص في الدخل يسبب الحقد والكراهية والنقمة: «بل هو حرمان من القدرة على العيش بكرامة، وهو ما يدفع البعض إلى التطرف». في هذا السياق، تظهر أهمية السياسات التي توازن بين النمو الاقتصادي وبين حماية البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعوب. إلا أن قوة المصالح القطرية وقوة غريزة البقاء وما تخلقه من مخاوف لدى الكيانات القوية خاصة، تجعل السياسات التنموية تواجه صعوبات قد تحد من فعاليتها، وذلك بسبب عدم التكافؤ العالمي في امتلاك وسائل السياسات رغم طموحاتها ومدى تطابقها والقيم الإنسانية النبيلة.

حدود الدبلوماسية في عالم غير متكافئ القوة.

قد تفشل الدبلوماسية إذا لم تكن مدعومة بإرادة سياسية حقيقية. هنا يشير الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي – «الهيمنة أو البقاء» (2003) – إلى أن القوى العظمى غالبًا ما تستخدم الدبلوماسية كغطاء لتعزيز مصالحها، وهو ما يقوض جهود السلام، كما سبق وبيَّنَّا.

لمحدودية الثقافة والفنون في مقاومة العنف أصول وأسباب، فما أهمها؟

الصراع على الموارد واستدامة الحياة كمحرك للعنف.

تعتبر البيئة حلقة وصل بين البقاء والاستقرار. فالبيئة السليمة والجميلة تمنح الشعور بمتعة الحياة الهادئة التي تمنع العقل من الاشتغال، وتجعل الغريزة في عطالة ما دام الإنسان يشعر بالاستقرار والأمن في فضاءات الجمال والنظام والنقاء. من جهة أخرى، يزيد تدهور البيئة من حدة الصراعات، كما يوضح العالم جاريد دياموند – «الانهيار» (2005) – حيث يربط بين استنزاف الموارد وسقوط الحضارات، لما يسببه الاستنزاف من خوف وقلة إشباع وشعور بالتهديد وفقد لمتعة الإحساس بالأمن وبإمكانية البقاء، خاصة في ظل أسس نظام اقتصادي وسياسي وثقافي يمنح الفرد إمكانية امتلاك وسائل الإنتاج ووسائل القوة بالتالي دون حدود. نتحدث في هذا السياق عن النظام الرأسمالي أساسًا.

هل يمكن تحقيق العدالة البيئية في ظل الرأسمالية؟

يحذر المنظر الماركسي ديفيد هارفي – «الليبرالية الجديدة وتاريخها المختصر» (2005) – من أن النظام الاقتصادي الرأسمالي في صيغته الأكثر تطورًا اليوم، وهي الليبرالية الجديدة، يعمق الاستغلال البيئي، وهو الأمر الذي يتطلب تغييرًا جذريًا في النموذج التنموي، بالنظر إلى النتائج الوخيمة التي تبدو واضحة اليوم في العالم بأسره.

في ظل التقدم التكنولوجي غير المسبوق اليوم، والذي يعتبر الذكاء الاصطناعي فيه قمة التطور المنذر بتسارع غير مسبوق أيضًا، ما الدور الذي يقوم به هذا الذكاء الاصطناعي في تعزيز السلام أو تقوية العنف؟

الذكاء الاصطناعي بين تعزيز السلام وفرض الهيمنة

تكمن إمكانات الذكاء الاصطناعي الهائلة في كبح العنف في قدرته عبر الخوارزميات والبرمجة الملائمة على تحليل بيانات الصراعات العالمية من كل الأنواع والتنبؤ بها. يشرح الباحث يوفال نوح هراري ذلك في مؤلفه: «21 درسًا للقرن الـ21» (2018). لكن، ومن جهة أخرى، فإن احتمال استخدام الذكاء الاصطناعي لتعميق مخاطر تحول النظام الاقتصادي العالمي، دوليًا وقطريًا، إلى «إقطاعية رقمية»، كما يرى العالم والباحث المرموق الاقتصادي سيدريك دوران – «التكنوفودالية» (2020) – تظل واردة، بل هي قائمة بالفعل مع شركات كبرى عالمية أمريكية وأوروبية وصينية مثل: Apple، Microsoft، Google (Alphabet)، Amazon، and Meta، ASML، SAP، Alibaba، Tencent، and Huawei. إذ تخلق هذه الشركات التكنولوجية الكبرى، بل خلقت فعلًا وعمليًا، نظامًا يشبه النظام الإقطاعي القديم، حيث تسيطر على البيانات وتتحكم في حياة الأفراد بشكل واضح وملموس، من حيث معلومات هويتهم وممتلكاتهم وتنقلاتهم، بل وحتى أذواقهم ومواقفهم وتصوراتهم وآراءهم واختياراتهم.

إلى أي حد يمكن للإنسان في عصر هيمنة الرقمي توجيه غريزة البقاء لصالح الحياة؟

سيتطلب، نظريًا، التحول من ثقافة الصراع إلى ثقافة التعايش جملة من الإجراءات والسياسات والقرارات والاتفاقات المترابطة عضويا فيما بينها. هنا باختصار شديد بعضها:

1- توظيف الفنون لتعزيز التعاطف.
2- تعزيز الدبلوماسية الشعبية كبديل للصراعات.
3- تبني سياسات تنموية عادلة.
4- ضبط التكنولوجيا بأطر أخلاقية.

أخيرًا، تلخص قولة الفيلسوف الفرنسي إدغار موران – «طريقة الإنسان» (1973) خاتمة حديثنا عن التكنولوجيات والعنف، حيث نقرأ له أن: «ليس بقاء الإنسان مجرد مسألة قوة، بل هو مسألة حكمة في إدارة التعقيدات الإنسانية». إن هذه الرؤية الشاملة، في نظرنا، هي السبيل لجعل غريزة «الكل يريد أن يعيش» قوة بناء بدلاً من طاقة دمار تهدد بإرجاع الإنسان وكل ما بناه من حضارة وتقدم إلى نقطة أقل من البدايات، حيث كانت الطبيعة على الأقل على سجيتها سليمة وقوية ومتوازنة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق