مع نهاية أول اختبار من الامتحانات الإشهادية التي يجتازها التلاميذ في ختام كل موسم دراسي، تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع مصورة مقتطفة من تصريحات التلاميذ لوسائل الإعلام، يعبّرون فيها عن استيائهم من “تشدّد” بعض الأساتذة في المراقبة، متهمين تلك الأستاذة بحرمانهم من الغش، ومنتقدين ذلك الأستاذ لأنه حرر تقريرا في حق مترشح ضُبط في حالة غش.
ومن خلال مضامين تلك التصريحات، يُستشفّ أن فئة من التلاميذ باتت تعتبر الغش في الامتحان حقا مكتسبا لا يجوز المساس به؛ مما يثير تساؤلات عميقة حول الخلفيات التربوية والنفسية التي أسهمت في ترسيخ هذا التصور لدى بعض المتعلمين، حيث أضحى الغش لا يُستَنكَر بل يُبرَّر، ثُمّ يُطالَب به كما لو كان امتيازا مشروعا، وهو وضعٌ يستدعي فتح نقاش حول العوامل المسببة له، وبحث سبل التصدي لهذه الظاهرة أو على الأقل الحد من انتشارها داخل الوسط المدرسي.
عوامل تربوية مغذّية
جبير مجاهد، أستاذ وباحث في الشأن التربوي، قال إن “ظاهرة الغش في الامتحانات الإشهادية تفشت في الوسط التربوي حتى أضحى المتعلمون يعتبرونها حقا مكتسبا. ومردّ ذلك لعوامل عديدة تغذّي هذه السلوكات؛ أبرزها تركيز التقويم على النقاط والنتائج أكثر من الفهم الحقيقي للدروس”.
وأضاف مجاهد، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنه “من بين العوامل التربوية التي ساهمت في انتشار الغش في الامتحانات الإشهادية ضعف الثقة بالنفس، حيث يشعر بعض التلاميذ بأنهم غير قادرين على النجاح بمجهودهم؛ فيلجؤون إلى الغش، خاصة في ظل ضعف الوازع الأخلاقي والتربوي لديهم”.
وللقضاء على الظاهرة أو الحد منها، أكّد المتحدث ذاته أهمية “تعزيز القيم الأخلاقية والتربوية، وإدماج مفاهيم الصدق والمسؤولية والنزاهة في البرامج الدراسية، مع تنظيم حملات داخل المدارس لتوعية التلاميذ بخطورة الغش وآثاره على الفرد والمجتمع، وإصلاح منظومة التقويم”.
عوامل نفسية وأسرية
ندى الفضل، أخصائية ومعالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “هذا السلوك يعكس نوعا من التحايل النفسي الدفاعي الذي يلجأ إليه البعض لتقليل التوتر الناتج عن الفشل أو القلق من الامتحان”.
وأوضحت الفضل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذه المواقف قد تكون ناتجة أيضا عن الإسقاط، أي أن التلميذ يُحمّل المراقبة الصارمة مسؤولية فشله المحتمل، أو حين يُقنع نفسه بأن الغش ضرورة وليس خيارا، خاصة إذا شعر بأن النظام التعليمي غير عادل”، لافتة إلى أن “الغش إذا كان منتشرا في محيط التلميذ، فإن هذا الأخير يشعر بأنه لا يرتكب أي خطأ وإنما يتبع ما هو عادي”.
وأضافت الأخصائية أن “العوامل النفسية التي تساهم في شرعنة الغش متعددة، من بينها ‘ضغط النجاح الاجتماعي’، حيث يُربط النجاح الدراسي بالمكانة الاجتماعية؛ فيُصبح الهدف هو النتيجة وليس التعلّم، إضافة إلى ضعف الشعور بالمسؤولية الفردية، إذ يتراجع الضمير الأخلاقي تدريجيا لدى بعض التلاميذ، خاصة مع غياب القدوة والنماذج التربوية الصالحة”.
وذكرت المتحدثة ذاتها ضمن العوامل أيضا “انعدام الثقة بالنفس، حيث يشعر التلميذ بأنه لا يملك القدرة على النجاح بدون غش، فيلجأ إليه كآلية تعويض”، و”ثقافة التبرير الجماعي، أي حين يُنظر إلى الغش كوسيلة للبقاء ضمن منظومة مليئة بالتحديات، ينشأ نوع من “التواطؤ صامت بين الزملاء”، منبّهة أيضا إلى خطورة “التطبيع عبر وسائل التواصل، خاصة حين يُحتفى بمن ينجح بالغش، وتُقدَّم ممارسات الغش كمواقف ذكية أو بطولية”.
وللحد من هذه الظاهرة، أكدت المعالجة النفسية الإكلينيكية على ضرورة “تعزيز التربية الأخلاقية والضمير المدرسي منذ السنوات الأولى، مع دمج قيم النزاهة في الحياة الدراسية”، و”تبني طرق تقويم عادلة ومتنوعة، لا تعتمد فقط على الامتحانات النهائية”، و”توفير دعم نفسي وتوجيهي للتلاميذ، لمساعدتهم على التعامل مع القلق والتوتر الدراسي”.
ودعت ندى الفضل إلى “تدريب الأساتذة على كشف ومعالجة أسباب الغش، لا الاكتفاء بالعقاب”، و”إشراك الأسرة في محاربة الغش، عبر توعيتهم بخطورته على المدى البعيد”، و”ربط الاستحقاق بالمجهود لا بالنتيجة، من أجل تغيير ثقافة ‘النجاح بأي ثمن”.
0 تعليق