إسرائيل اليهودية وإيران الإسلامية.. صناعة غربية لزعزعة الحزام البري الروسي وقطع الطريق على الصين

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يبدو الصراع بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فى ظاهره، من أكثر الصراعات تعقيدًا وتجذرًا فى النظام الدولي. فهو يجمع بين تناقضات دينية ومذهبية، وخلافات سياسية وأمنية، ويأخذ طابعًا وجوديًا فى خطاب الطرفين. إسرائيل، الدولة ذات الطابع العلمانى المرتبط بالغرب، تقف على النقيض من إيران الثورية التى ترفع شعار "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل" بوصفه جوهر عقيدتها السياسية. لكن، هل يكفى هذا الظاهر لتفسير الواقع؟ أم أن خلف هذا الصراع الظاهرى وظيفة جيوسياسية أعمق تُخدم من خلالها مصالح أكبر؟

عند تفكيك المشهد من زاوية جيوسياسية أوسع، تظهر معالم مختلفة تمامًا. فكلا الطرفين – رغم عدائهما المعلن – يتحركان ضمن مناخ استراتيجى تسمح به القوى الكبرى وتُعيد ضبطه كلما اقتضت الحاجة. هذا "العداء المدروس" لا يؤدى إلى حرب شاملة، ولا إلى سلام دائم، بل يُنتج توترًا دائمًا يخدم أطرافًا ثالثة. ومع تزايد التنافس العالمى على الممرات والمناطق الحيوية، تحوّل هذا الصراع إلى أداة لضبط الإيقاع الجغرافى السياسى فى منطقة الشرق الأوسط، لا لتغييره.

بشكل غير مباشر، تساهم السياسات الإسرائيلية والإيرانية – كلٌ لأسبابه – فى تعطيل مشاريع الربط الجغرافى الكبرى التى تهدد هيمنة الغرب، وعلى رأسها مشروع "الحزام والطريق" الصيني، والممرات البرية الروسية. فالصراعات التى يغذيها الطرفان فى سوريا ولبنان والعراق واليمن، تؤدى إلى إبقاء المنطقة فى حالة من عدم الاستقرار، تمنع تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى، وتُبقى على الوجود العسكرى الغربى بوصفه ضرورة استراتيجية. بهذا، يصبح الطرفان، رغم اختلاف دوافعهما، عاملين فى منظومة واحدة تُبقى النظام الدولى فى حالته الراهنة.

الصراع فى جوهره لم يعد متعلقًا فقط بالحدود أو العقائد أو الأمن، بل بات جزءًا من معركة كبرى على الممرات والموارد والهيمنة على الفضاءات الجغرافية. يمتد هذا الصراع من بحر الصين الجنوبى إلى سواحل المتوسط، وتمر خطوطه الحيوية عبر إيران وتركيا وسوريا والعراق ومصر. من هنا، يصبح لكل من إيران وإسرائيل موقع خاص فى هذه الرقعة، لا بوصفهما فاعلين مستقلين، بل كقطع تتحرك فى رقعة شطرنج ترسمها القوى الكبرى بعناية، ويُعاد تشكيلها وفق مصالحها المتغيرة.

إن إعادة قراءة الصراع الإسرائيلى – الإيرانى من هذا المنظور تُحررنا من الرؤية التبسيطية التى تختزل المشهد فى كراهية طائفية أو عداء عقائدي. فالصراعات الكبرى فى الشرق الأوسط لا تُفهم من خلال شعاراتها، بل من خلال وظائفها. وعندما نقرأ التوتر بين إيران وإسرائيل فى ضوء لعبة المصالح الدولية، ندرك أنهما – رغم العداء الظاهري – يشكلان معًا جزءًا من آلية التحكم الاستراتيجى فى المنطقة، بما يضمن تعطيل المنافسين الجدد، وإبقاء النظام العالمى القديم فى موقع القيادة.

إسرائيل رأس جسر استراتيجى للغرب فى الشرق الأوسط

منذ نشأتها عام ١٩٤٨، لم تكن إسرائيل مجرد كيان سياسى مستقل، بل كانت تجسيدًا لمشروع جيوسياسى غربى استراتيجي، استُزرع عمدًا فى قلب المنطقة العربية. لم يكن موقعها الجغرافى اعتباطيًا، فقد اختير بعناية ليقطع الامتداد الجغرافى والديمغرافى بين مشرق العالم العربى ومغربه، ويحول دون أى شكل من أشكال الوحدة السياسية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية بين شعوبه. هذا الموقع منحها ميزة التحكم فى عقدة طرق حيوية، من قناة السويس جنوبًا إلى رأس الناقورة شمالًا، ومن مضيق تيران والبحر الأحمر إلى سواحل المتوسط، وهو ما جعلها عنصرًا محوريًا فى استراتيجيات القوى الغربية الكبرى.

إسرائيل لم تتصرف، على مدى عقود، كدولة ذات مصالح وطنية فقط، بل كدولة "وظيفية"، تؤدى أدوارًا تتعدى حدودها الجغرافية. من أبرز هذه الوظائف: منع أى محاولات لخلق تكتلات إقليمية عربية أو إسلامية قد تهدد مصالح الغرب أو تخلّ بتوازن القوى فى الشرق الأوسط. فكلما ظهرت بوادر تقارب أو تكتل، كان الدور الإسرائيلى حاضرًا لإفشالها إما بالتحريض أو بالتدخل المباشر أو عبر اختراقات أمنية وسياسية موجهة.

فى البنية الأمنية الغربية، تشغل إسرائيل موقعًا متقدمًا بوصفها شريكًا استخباراتيًا وعسكريًا من الطراز الأول. وقد لعبت هذا الدور خلال الحرب الباردة، حين كانت تمثل قاعدة أمامية للغرب فى مواجهة المد السوفيتى فى المنطقة، سواء فى الشرق العربى أو فى أفريقيا. وفّرت تل أبيب معلومات استخباراتية بالغة الأهمية، واستضافت تجهيزات عسكرية وأنظمة مراقبة متقدمة، ما جعلها عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه فى معادلة الردع الغربي.

مع تفكك الاتحاد السوفيتى وصعود روسيا الاتحادية كلاعب دولي، حافظت إسرائيل على دورها فى احتواء موسكو، وإنْ بصيغ مختلفة. فقد أصبحت أداة لتضييق الخناق على النفوذ الروسى فى سوريا ولبنان، كما ساهمت فى تشكيل جبهة ردع غير مباشرة من خلال التنسيق العميق مع حلف الناتو، خاصة فى شرق البحر المتوسط. كذلك، استثمرت علاقاتها مع الجاليات الروسية واليهودية فى دول الاتحاد السوفيتى السابق لتبقى على أدوات تأثير إضافية فى محيط روسيا.

مع تحوّل الصين إلى التهديد الجيوسياسى الأكبر للولايات المتحدة والغرب، وجدت إسرائيل نفسها تؤدى وظيفة جديدة: تعقيد مسارات الاستقرار فى الشرق الأوسط بما يعطّل أو يربك المشاريع الصينية العابرة للقارات. فالصين تحتاج إلى بيئة مستقرة لمدّ خطوط التجارة والطاقة من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر مبادرة "الحزام والطريق". لكن الاضطراب المستمر، والتوترات المتجددة التى تُذكيها إسرائيل سياسيًا وعسكريًا – سواء عبر التصعيد مع إيران أو فى الأراضى الفلسطينية أو فى لبنان – تعرقل إمكانية أن تصبح المنطقة محور عبور آمن للبنية التحتية الصينية الطموحة. وبهذا، تؤدى إسرائيل وظيفة غير مباشرة لكنها استراتيجية فى خدمة الهيمنة الغربية.

إيران الإسلامية.. ثورة محاصرة تلعب أدوارًا مزدوجة

منذ الإطاحة بنظام الشاه عام ١٩٧٩، قدّمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها بوصفها نقيضًا استراتيجيًا للولايات المتحدة وإسرائيل، مستندة إلى خطاب ثورى يُدين "الاستكبار العالمي" ويُبشّر بتصدير الثورة. هذا الخطاب لم يكن مجرد شعارات، بل تحوّل إلى ركيزة فى بناء النظام السياسى والعقائدى الإيراني، الذى يقوم على "ولاية الفقيه" وتكريس الصراع مع الغرب كوسيلة لحشد الداخل وبناء الهوية. غير أن هذا العداء الظاهري، رغم حقيقته فى بعض اللحظات، كثيرًا ما استُخدم بطريقة معقدة داخل الحسابات الجيوسياسية الغربية، بوصفه أداة غير مباشرة لضبط التوازنات الإقليمية.

امتدت الاستراتيجية الإيرانية عبر تشكيل ما يُعرف بـ"الهلال الشيعي"، وهو حزام نفوذ يمتد من طهران مرورًا ببغداد ودمشق وصولًا إلى بيروت. هذا الامتداد لم يكن فقط مذهبيًا أو عقائديًا، بل شكّل عمقًا استراتيجيًا لإيران، يتيح لها الوصول إلى البحر المتوسط، ويمكّنها من التأثير فى ملفات كبرى كالصراع العربى الإسرائيلي، والطاقة، والتوازن الإقليمي. لكن المفارقة أن هذا الهلال – الذى يُفترض أنه تهديد للمصالح الغربية – يعوق فعليًا مشروع الربط الجغرافى الاقتصادى الآسيوي، ويخلق بيئة نزاع دائم تعرقل استقرار المنطقة، وتُبقيها خارج مسارات التنمية والبنية التحتية العابرة.

إيران، من حيث لا تحتسب، وفّرت مبررًا دائمًا للوجود العسكرى الأمريكى والغربى فى الخليج وآسيا الوسطى. فباسم "ردع إيران"، أنشأت واشنطن قواعد عسكرية ضخمة فى البحرين وقطر والكويت، ونسّقت وجودها الأمنى فى آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ووسّعت مظلة الحماية للدول الحليفة. بذلك، ساهمت السياسات الإيرانية – عبر خطابها التهديدى وسلوكها الإقليمي – فى إدامة مبررات التدخل الغربي، بما يخدم مشروع السيطرة على الممرات المائية والطاقة.

التهديد الإيرانى المستمر لدول الخليج العربي، سواء عبر التدخل فى البحرين، أو تهديد الملاحة، أو دعم جماعات مسلحة فى اليمن والسعودية، جعل هذه الدول ترى فى واشنطن الحامى الوحيد لأمنها القومي. هذا الخطر الإيراني، حتى لو كان حقيقيًا فى جزء منه، استخدمه الغرب لإحكام تحالفه مع دول الخليج، وتسويق صفقات السلاح، وترسيخ الاعتماد الأمنى والاقتصادى عليها. فبدلًا من قيام منظومة أمن إقليمى متوازنة، أصبحت المنطقة تُدار وفق منطق الردع والتبعية الأمنية.

من أكثر المفارقات تعقيدًا فى المشهد الإقليمي، أن الصراع المعلن بين إيران وإسرائيل – رغم خطورته وتداعياته – لم يؤدِ إلى مواجهة شاملة حتى الآن، بل ظل ضمن حدود مدروسة. هذه "المواجهة المؤجلة" تُستخدم مرارًا لتبرير تعطيل مشاريع الاستقرار الكبرى، ومنها مشاريع الربط بين الصين وأوروبا، مثل "الحزام والطريق". فالمنطقة التى تشهد توترًا دائمًا، لا تصلح لتكون ممرًا آمنًا للاستثمارات أو الطاقة أو النقل. وبذلك، تساهم إيران، من حيث لا تقصد، فى تحقيق هدف استراتيجى غربي: إبقاء الشرق الأوسط ساحة اضطراب دائم، تعوق صعود القوى الشرقية الكبرى مثل الصين.

الحزام البرى الروسى ومبادرة الحزام والطريق

فى السنوات الأخيرة، طرحت كل من روسيا والصين مشاريع استراتيجية عابرة للقارات تهدف إلى تقويض الهيمنة الغربية على طرق التجارة والطاقة العالمية. روسيا تسعى إلى إعادة إحياء طرقها البرية القديمة التى تربط موسكو بشرق أوروبا وآسيا الوسطى، بينما أطلقت الصين مشروع "الحزام والطريق" الذى يربط بين الصين وأوروبا مرورًا بوسط وجنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. هذان المشروعان، رغم اختلاف طبيعتهما، يشتركان فى الهدف ذاته: خلق بنية تحتية بديلة للنظام العالمى الذى تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ الحرب العالمية الثانية.

النجاح الفعلى لهذين المشروعين يتطلب استقرارًا إقليميًا طويل الأمد، خاصة فى مناطق العبور الرئيسية مثل آسيا الوسطى، إيران، العراق، سوريا، تركيا، ومصر. هذه المناطق تمثل عقد النقل البرى والموانئ المحورية فى خارطة الحزام والطريق، كما تُعدّ ممرًا رئيسيًا للطريق البرى الروسى باتجاه أوروبا. أى اضطراب أمنى أو سياسى فى هذه المناطق يؤدى إلى تعطيل مؤقت أو دائم لهذه المسارات، ويُفقد تلك المشاريع جدواها الاقتصادية والاستراتيجية. من هنا، تصبح الفوضى أداة فعالة لتعطيل هذه المبادرات دون إعلان الحرب عليها.

ما يقلق الغرب ليس فقط النجاح التجارى لتلك المشاريع، بل الترتيب الجيوسياسى الذى يمكن أن ينتج عنها. فبفضل هذه المشاريع، تتقلص الحاجة إلى وجود عسكرى أمريكى لحماية طرق التجارة والطاقة، وتتزايد الشراكات بين دول "الجنوب العالمي" بعيدًا عن المنظومة الغربية التقليدية. كما تتيح هذه المشاريع لدول مثل إيران أو تركيا أو مصر أن تلعب أدوارًا متقدمة فى النظام العالمى الجديد دون المرور عبر البوابة الأمريكية، وهو ما يُنظر إليه باعتباره تهديدًا طويل الأمد لمصالح واشنطن وحلفائها.

فى هذا السياق، يصبح استمرار التوتر بين إسرائيل وإيران، وتصاعد المواجهات بالوكالة فى سوريا والعراق ولبنان واليمن، ليس فقط نتيجة تناقضات إقليمية حقيقية، بل وسيلة فعالة لتعطيل الاستقرار اللازم لتنفيذ مشاريع الربط البرّي. فكلما تجددت المواجهات، أو ارتفع منسوب التوتر الطائفى والسياسي، انخفضت جدوى الاستثمارات فى البنية التحتية، وازداد تردد الشركات والحكومات فى الدخول بشراكات عابرة للقارات. وهكذا، تُستخدم أزمات المنطقة كصمامات تعطيل تُبقى النفوذ الغربى قائمًا دون تكلفة مواجهة مباشرة.

اللافت فى هذه الاستراتيجية هو أنها لا تتطلب الدخول فى حروب كبرى، بل تقوم على إدارة الحروب الصغيرة والتوترات المحدودة، بطريقة تبقى المنطقة فى حالة غليان مستمر. من لبنان إلى اليمن، ومن غزة إلى دير الزور، تُغذى النزاعات وتُدار بعناية كى لا تخرج عن السيطرة، لكنها فى الوقت ذاته تمنع أى بيئة مستقرة قد تسمح بنجاح مشاريع الصين أو روسيا. وهكذا، تصبح المنطقة رهينة معارك ظاهرها محلى أو طائفي، لكن جوهرها مرتبط بمنع إعادة تشكيل النظام العالمى لصالح قوى جديدة صاعدة.

من الفوضى إلى الوظيفية

تُهيمن على الخطاب العام حول الصراعات فى الشرق الأوسط تفسيرات ذات طابع طائفى أو أيديولوجى أو ديني، تُحمّل السنّة والشيعة، أو الإسلاميين والعلمانيين، مسئولية الانفجار المزمن فى المنطقة. غير أن هذه المقاربة تُخفى خلفها أبعادًا أعمق وأكثر تعقيدًا، تتعلق ببنية النظام الدولى نفسه، وبالوظائف التى تؤديها هذه الصراعات ضمن منظومة ضبط التوازنات الجيوسياسية العالمية. فالصراعات لا تنشأ من فراغ، وغالبًا ما تُدار، تُغذّى، أو يُسمح لها بالاستمرار عندما تخدم أهدافًا أكبر من مجرد خلافات داخلية.

فى ظل تعقيد المشهد الدولى وتزايد الصراع بين القوى الكبرى، أصبحت "الفوضى المنظمة" أداة فعالة بيد قوى خارجية. هذه الفوضى لا تُترك لتتحوّل إلى انهيار شامل، بل تُدار ضمن حدود معينة تضمن بقاء التوتر واستمراره. من هذا المنظور، تُصبح الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية أدوات استراتيجية تُستخدم لتجميد مشاريع منافسة، أو لتبرير وجود عسكري، أو لتشكيل خارطة مصالح تخدم القوى المهيمنة. بهذا المعنى، لا تكون الحرب مجرد نتيجة لعوامل داخلية، بل تتحوّل إلى وظيفة ضمن بنية الهيمنة العالمية.

رغم العداء الظاهر والجذرى بين إسرائيل وإيران، إلا أن كليهما يتحرك فى فضاء محكوم بتوازنات دولية مرسومة، سواء بشكل مباشر أو عبر التأطير غير المباشر. فإسرائيل، بحكم تحالفها الوثيق مع الغرب، تؤدى أدوارًا وظيفية فى تعطيل الاستقرار الإقليمي، وكذلك تفعل إيران، رغم خطابها المناهض للغرب، من خلال سياسات توسعية تنتج اضطرابًا دائمًا. النتيجة هى معادلة ثابتة: بقاء التوتر دون انفجار شامل، بما يكفى لتعطيل البدائل الاستراتيجية الصينية والروسية، دون أن يضر بالمصالح الغربية الأساسية.

الأزمات الممتدة فى غزة، سوريا، لبنان، واليمن ليست مجرد نتاج لصراعات محلية أو انهيارات فى البنية السياسية للدول، بل أصبحت جزءًا من لعبة كبرى تُعاد فيها هندسة النفوذ العالمي. كل واحدة من هذه الساحات تؤدى وظيفة: غزة كأداة ضغط على التحركات العربية؛ سوريا كمعبر استراتيجى يربط إيران بالبحر المتوسط؛ لبنان كخاصرة رخوة على حدود إسرائيل؛ واليمن كمفتاح جغرافى للملاحة البحرية فى باب المندب. لذا فإن استمرار هذه النزاعات، فى صيغتها المزمنة، ليس فشلًا فى الحل، بل استراتيجية لإدامة الفوضى.

فى النهاية، يبدو أن الشرق الأوسط لم يعد مجرد مسرح لصراعات متفرقة، بل تحوّل إلى فضاء "وظيفي" يُعاد تشكيله ليخدم أهدافًا تتجاوز حدوده. تُوظف الأزمات لإنتاج حالة من اللااستقرار المستمر، تمنع تشكّل كيانات اقتصادية أو جغرافية كبرى، وتعطل مشاريع بديلة تقودها روسيا أو الصين. بهذا المعنى، ليست الصراعات مدفوعة فقط بتناقضات داخلية، بل تُدار بذكاء خارجي، لتظلّ المنطقة حبيسة التوتر، ولتبقى بوابة مفتوحة لنفوذ القوى الكبرى القديمة.

الشرق الأوسط لوحة شطرنج عالمية

لطالما قُدّم الصراع بين إيران وإسرائيل على أنه صراع "وجودي"، تتقاطع فيه الأيديولوجيا، والدين، والأمن القومي. إلا أن القراءة الجيوسياسية الأعمق تكشف أن هذا الصراع، رغم حقيقته الظاهرة، يُدار ضمن هوامش محسوبة لا تسمح بانفجار شامل، بل تبقيه ضمن مستوى "التصعيد المتحكّم فيه". وبهذا، تحوّل هذا النزاع إلى أداة دائمة لإنتاج الفوضى المُنظمة فى المنطقة، بما يخدم مصالح قوى كبرى تتفادى الصدام المباشر لكنها تحرص على منع الاستقرار الإقليمى الذى قد يغيّر موازين القوى العالمية.

ما يحكم ديناميات الصراع ليس فقط مواقف الدول المتورطة فيه، بل توازنات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وروسيا، والصين. فمع صعود التحالف الصيني–الروسي، أصبح من مصلحة واشنطن الحفاظ على حالة عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، بما يعطّل مسارات التمدد الاقتصادى الصينى ويحدّ من قدرة روسيا على إعادة توسيع نفوذها فى مناطق العبور. إسرائيل وإيران، دون تنسيق مباشر، تتحركان ضمن بيئة تسمح بهذا النوع من التصعيد الوظيفي، حيث يُضبط الإيقاع بما لا يُفقد السيطرة، ولا يُنتج حلولًا نهائية.

لفهم ما يحدث فى الشرق الأوسط، لا يمكن الاكتفاء بالتصنيفات الثنائية التقليدية من نوع "محور الخير" و"محور الشر"، أو "أعداء" و"حلفاء". هذه الثنائية تُغفل الطبيعة الديناميكية للعلاقات الدولية، وتُعمّى عن حقيقة أن بعض الصراعات تُدار من خارج المنطقة، وفق حسابات لا علاقة لها بالحق أو العدالة أو العقيدة. بل تُدار وفق منطق المصالح الاستراتيجية، والتحكم بالممرات، وضبط إيقاع التنافس بين القوى الكبرى. بالتالي، لا بد من التخلى عن الروايات المطلقة، والنظر فى دور كل فاعل فى هذه المعادلة، سواء بوعى منه أو بدونه.

الشرق الأوسط اليوم أقرب ما يكون إلى رقعة شطرنج عالمية، تتحرك عليها الأحجار وفق استراتيجية تُرسم فى مراكز القوة الدولية، لا فى العواصم المحلية. الدول الفاعلة فى المنطقة – رغم قوتها الظاهرية – كثيرًا ما تتحرك ضمن هوامش مرسومة، تؤدى من خلالها أدوارًا معينة، سواء كانت "المشاغب" أو "الخصم" أو "الضحية". وفى كل مرة تقترب الأزمة من نهايتها، يُعاد خلط الأوراق، وتُفتح جبهات جديدة تُبقى اللعبة مستمرة.

لعل أهم ما يمكن استخلاصه من هذا التحليل، هو ضرورة الانتقال من فهم الشرق الأوسط عبر خطاب الشعارات والهويات، إلى قراءته بوصفه فضاءً استراتيجيًا تتحكم فيه المصالح الكبرى. وحدها هذه القراءة تُفسر لماذا تستمر الحروب دون نهاية، ولماذا تُغذى الصراعات رغم قدرتها على الانفجار. فبعض الحروب لا تُخاض من أجل النصر، بل من أجل تعطيل الخصم الثالث، أو حفظ توازن عالمى هشّ. وما لم نفهم هذه الديناميات بعمق، سنظل نقرأ الأحداث بعيون مغلقة على حقيقة اللعبة الكبرى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق