يختلف مفهوم الرواية من كاتب إلى آخر باختلاف المنطلق والرؤية ثم الأفق والهدف، ويرى عبدالرحمن منيف أن الرواية "هي قراءة حقيقية وصادقة للواقع مع كمية من الأحلام والرغبات في الوصول إلى واقع أفضل، على حياة أقل شقاء، ولذلك‘ فإن مهمة الرواية هي أن توصل كما من المعلومات والوقائع وأن تجعل الناس أكثر قدرة ووعيًا لواقعهم وأن تحرض أقوى ما فيهم من المشاعر، من أجل ان يكونوا بشرًا فاعلين، إن الرواية – أو أي عمل أدبى – لا يمكن ان تغير الواقع، إن الإنسان هو من بغيره، الإنسان حين يكون أكثر إدراكا وأكثر حساسية يكون بالنتيجة أكثر فاعلية، ومهمة الرواية أن تسهم في خلق هذا الإنسان. فالرواية توحى ولا تفسر، وتضيء الأسئلة ولا تقرر الإجابات، تغير منظور الإنسان إلى الواقع، ولا تغير من الواقع شيئا.
أن الرواية العربية أخذت منعطفا وتحولا كبيرا ليس على مستوى الشكل فحسب ولكن من خلال المضمون أيضا، كما انها لم تدخل الحيز الأكبر والمرحلة الكبرى من مراحل تطورها إلا في ستينيات القرن الماضي، تحديدًا بعد نكسة يونيو 1967م، التي تعد بمثابة انطلاقة جديدة للرواية العربية، لأن النكسة– ببساطة– زعزعت المسلمات واليقين الراسخ الذي كان سائدًا خلال عقود سابقة. صحيح أن عددًا من الروايات التي سبقت النكسة انطلقت من زعزعة المسلمات، وتركت تأثيرها الواضح في تطور الرواية العربية، إلا أن الهزيمة كانت المنعطف التاريخي والاجتماعي في تحول الرواية العربية فظهر تيار المراجعة والمساءلة الذي دفع إلى السطح العديد من الأسئلة – لماذا نحن هنا؟ ما الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة؟ ما الذي حدث؟ وكذلك المواضيع الساخنة – مثل النفط على سبيل المثال – التي تتطلب المواجهة والمعالجة أيضا من خلال الرواية.
من خلال هذا العرض السابق يتضح أن ظهور عبدالرحمن منيف ولجوءه إلى الرواية كان أمرًا حتميًا أفرزته تكل المرحلة/الظرف الاجتماعي التاريخي، باعتبارها تلبية للحاجة في رصد وتفهم تحولات جوهرية جرت على واقع البشر في زمان ومكان محددين/الوطن العربي إبان هزيمة 67.
نستخلص مما سبق أن منيف يحاول – إذن-أن يكتب واقعا موازيًا للواقع الحقيقي من خلال الرواية، واقع لا ينقل سطح الواقع الحقيقي بل يغوص في أعماقه، ليقرأ تفاصيله ويفكك شبكة علاقاته ويعيد تركيبها ومن ثم تغييره، فإن "المسعى هو أن يغير البشر هذا الواقع.. وتتوقف قدرة البشر على تغيير واقعهم على قدر ما عرفوا عن هذا الواقع"، وهذا هو يحاول منيف أن يقوم به، كشف هذا الواقع ونبش جذوره من خلال الرواية ومن ثم تغييره، ولكن كيف كشفه ونبش جذوره؟ من هنا تأتى أهمية كتاب "الرؤية التأريخية في خماسية مدن الملح.. دراسة تأويلية" للباحث محمود معروف والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. والفضاء الروائي في الخماسية يعد واحدًا من أهم الركائز – إن لم يكن أهمها-التي قام عليها بناء الرواية، فهو المتحكم في مسار الأحداث ومصير الشخصيات، ونستطيع بداية أن نضع معالم الفضاء الروائي وحدوده في مدن الملح، فمدن الملح تنطلق في جزئها الأول (التية) من وادى العيون ثم إلى حران، التي تصبح فيما بعد حرانان، شتان فيما بينهما، حران العرب وحران الأمريكان، أما (الأخدود) فموقوفة على موران، وفى (تقاسيم الليل والنهار) يترامى الفضاء من موران إلى شتى أنحاء صحرائها وصولا إلى التخوم الصحراوية المعاكسة لحران: العوالى، وفى (لمنبت) ننتقل إلى ألمانيا وسوسيرا حيث نفى السلطان "خزعل"، أما في (بادية الظلمات) فالفضاء فيها هو الفضاء في تقاسيم الليل والنهار، لأن الأحداث فيها بمثابة تكملة للأحداث في تقاسيم الليل والنهار.
فيرثى عبدالرحمن منيف ذلك الزمن الذى عاشه أبناء الوادي، نتيجة هدم الألفة التي بدأت بوصول الغرباء وإقامة معسكرهم، ثم بوصول الآلات التي سوت الوادي بحثًا عن النفط، ثم تهجير أهلة إلى فضاء جديد وهو فضاء (الحدرة) الذى يتميز بصفات تعارض صفات فضاء وادى العيون، ولذلك شعر سكان وادى العيون وهم يتجهون نحو الحدرة أنها أول مرة تبدو لهم الأماكن معادية، وفيها هذا المقدار الهائل من القسوة كما عبر السارد: "فقد بدت لهم وجوه البشر في الأماكن التي بها قاسية صماء، أن طعم الماء مالح وأقرب إلى المرارة، الأماكن التي توقفوا فيها بدت لهم غير مألوفة ولا يمكن للإنسان ان يتعود عليها".
وبذلك تنتهي مرحلة من الحياة في تلك الصحراء العصية إيذانا بمرحلة جديدة تبدأ بعد اكتشاف النفط، حيث شكلت هذه المرحلة أحداثا صاعقة على المكان والكائن فيه، فتحولت الأرض الخضراء إلى مصاف للبترول، مصاف تعج بالزيوت والأوساخ، بعدما كانت مليئة بالأشجار والنباتات الخضراء والمياه العذبة، وقد صاحب هذه التحولات خلل نفسي للشخصيات وتغير في علاقاتهم الإنسانية وعاداتهم وتاريخهم.
كما جاءت جماليات الانزياح اللغوي، للتعبير عن الدمار الذي أصاب المكان، ليجعل الكاتب من الأشجار كائنا حيا يصرخ ويستنجد، ينادى ثم يحتج على ما أصابه، وكأنه يحملها أحاسيسه ومشاعره، لأنه يعيش أجواء المعاناة النفسية الناتجة عن اجتياح المكان وتدميره من قبل الآخر، وبذلك نجد الكاتب يؤسس لبناء جديد لا يمت إلى القديم (الأصل) بصلة، هذا البناء الجديد يؤسس شرخا كبيرًا بين الماضي والحاضر، بين الذات والآخر، وكذلك يؤسس لرؤية ضبابية لما سيكون عليه الغد، ويتضح مما سبق أن هناك أماكن جاذبة تساعد على الاستقرار، وأماكن طاردة تلفظنا فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها ن لكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته.
أما (حران) فهي بيئة مختلفة كل الاختلاف عن غيرها، يقول عنها السارد: "ففي هذا المنخفض من الأرض، حيث كانت مجموعة بيوت فقيرة، قريبة من البحر، تتشكل الطبيعة على نحو لا تماثله أمكنة أخرى ". فقد راعى الكاتب في البداية عند تصميم المكان ان يتصف بالحميمية، فحشد له الكثير من المقومات التي تثير مشاعر الألفة، فيقول: هذه البيوت الطينية قريبه من البحر، على أرض في أحد جوانبها رأس صخري يمتد داخل البحر، وفى الجانب المقابل يتكون خليج ضحل المياه، شديد التعرج، يمتد على مسافة معينة، ثم ينفتح البحر ويتسع، ويصبح الشاطئ رمليا، ثم يتحدث عن مناخها، قائلًا: "حران في الصيف هي الجحيم بذاته: يسكن الهواء تماما، وتبدو السماء قريبة ثقيلة وكأنها قبة من رصاص، كما يتشبع الجو برطوبة كثيفة، فيصبح التنفس صعبًا وتصبح الجسام ثقيلة لزجة، فتنز عرقًا دون توقف، أما الملابس فإنها تتحول إلى عبء لفرط البلل وتلك الرائحة التي تولجها الأجسام، وفى مثل هذا الجو يصاب الإنسان بالعجز والتعب".
هذا الوصف جزء من لوحة كاملة تتحدث عن جغرافية (حران) وطبيعتها ومناخها، فالمناخ في حران مثير للنفور، بل تصبح حرانًا في الصيف هي الجحيم بذاته، ومن أجل تحقق ذلك يرسم الكاتب في المكان رأسًا ناتئًا من الصخور يمنع الرياح التي تهب من ناحية الشرق لتخفف من حرارة الجو، فيقول: لأن الريح الشرقية التي كثيرًا ما تصل إلى الأماكن الأخرى، لا تصلها بنفس القوة، إذ تتكسر هذه الرياح حين تصطدم بالرأس الناتئ، أو حين تلتف حوله".
وللحديث بقية
0 تعليق