لأول مرة منذ أكثر من أربع سنوات، البنك المركزي يتخذ قرارًا جريئًا بخفض أسعار الفائدة بمقدار 2.25%، في خطوة تعكس توجهًا جديدًا في السياسة النقدية يواكب التغيرات الاقتصادية محليًا ودوليًا. في هذا التقرير سنسلط الضوء على أبعاد هذا القرار، وتوقيته، وتأثيره المحتمل على الاقتصاد المصري.
قرار تاريخي
أعلن البنك المركزي، عبر لجنة السياسة النقدية، خفض سعر الفائدة بمقدار 225 نقطة أساس، ليصل إلى 25% للإيداع و26% للإقراض، وهو أول خفض منذ نوفمبر 2020. القرار يأتي بعد فترة طويلة من رفع متواصل للفائدة بدأت في مارس 2022 واستمرت حتى مارس 2024، رفعت خلالها أسعار الفائدة بنحو 19%.
كان آخر خفض قد شهدته السياسة النقدية في نوفمبر 2020 بنسبة 0.5% فقط، لكن منذ ذلك الحين اتخذ البنك المركزي نهجًا أكثر تشددًا بهدف كبح جماح التضخم، خاصة في ظل أزمات اقتصادية عالمية، وتذبذبات في الأسواق الناشئة.
التضخم يتراجع والاقتصاد يتنفس
جاء هذا الخفض في وقت شهد فيه الاقتصاد المحلي بوادر تعافٍ واضحة، أبرزها التراجع في معدل التضخم السنوي، والذي هبط إلى 12.8% في فبراير الماضي، مقارنة بـ24% في يناير. ورغم عودة الارتفاع إلى 13.6% في مارس نتيجة ضغوط موسمية مرتبطة بشهر رمضان، خصوصًا في أسعار الفاكهة التي قفزت بنحو 23.6%، فإن التضخم الأساسي تباطأ إلى 9.4%، وهو ما اعتُبر مؤشرًا إيجابيًا على استقرار نسبي للأسعار.
توقيت دقيق وقرار مؤثر
أكد الدكتور هاني الشامي، أستاذ الاقتصاد بجامعة المستقبل، أن خفض الفائدة بمقدار 225 نقطة أساس يُعد خطوة ضرورية ومناسبة في هذا التوقيت، واصفًا القرار بأنه "بالغ الأهمية في ظل تعقيدات اقتصادية محلية ودولية متشابكة".
وأشار الشامي إلى أن خفض الفائدة سيدفع النشاط الاقتصادي نحو التعافي، ويشجع على ضخ رؤوس الأموال في قطاعات إنتاجية متنوعة، بعيدًا عن أدوات الدين ذات العائد المرتفع.
انعكاسات إيجابية على البورصة والاستثمار
القرار يحمل في طياته تأثيرات مباشرة على سوق المال المصري. فبحسب الشامي، فإن خفض الفائدة سيدفع العديد من رؤوس الأموال إلى التحول من أدوات الدين ذات العوائد المرتفعة نحو الاستثمار في الأسهم، ما يعزز من حجم السيولة في السوق ويرفع من أداء المؤشر الرئيسي للبورصة. ويتوقع أن يعاود المؤشر اختبار قمته التاريخية المسجلة في الربع الأول من العام الماضي عند مستوى 34,489 نقطة، خاصة في ظل عودة المؤسسات المالية إلى الشراء وزيادة التدفقات على الأسهم القيادية.
دوافع القرار
ورغم الارتفاع الطفيف في معدل التضخم السنوي في مارس إلى 13.6%، يرى الشامي أن الأسباب موسمية بالأساس، خاصة مع ارتفاع أسعار الطعام والفواكه بنسبة 23.6% خلال شهر رمضان. ومع ذلك، فإن تباطؤ التضخم الأساسي يدعم وجهة النظر القائلة بأن هذه الضغوط مؤقتة، وليست مؤشرًا على موجة تضخمية طويلة الأمد.
في هذا السياق، يأتي القرار كإجراء استباقي يوازن بين الحاجة إلى تنشيط الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار النقدي، وهو ما يُظهر توازنًا ملحوظًا في سياسات البنك المركزي تجاه التحديات الداخلية والخارجية.
في النهاية، يُعد قرار البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة إجراءً استباقيًا مدروسًا، يعكس توازنًا دقيقًا بين السيطرة على التضخم وتحفيز النمو الاقتصادي. كما يعكس قدرة البنك على التفاعل مع المؤشرات الاقتصادية المتغيرة، والسعي نحو تحقيق استقرار نقدي يُعزز مناخ الاستثمار دون التضحية بأهداف الاستدامة المالية.
الأنظار تتجه الآن إلى نتائج هذا القرار خلال الأشهر المقبلة، ومدى تأثيره على مؤشرات الاقتصاد الكلي، من الاستثمار والتوظيف إلى معدلات التضخم والنمو، في وقت تحتاج فيه مصر إلى خطوات جريئة لدعم تعافيها الاقتصادي.
لكن في المجمل، فإن القرار يعكس رغبة حقيقية في دفع عجلة النمو، وجعل بيئة الاستثمار أكثر جاذبية، مع الحفاظ على توازن دقيق في التعامل مع التحديات الاقتصادية المعقدة التي تواجه مصر والعالم.
0 تعليق