حتى لا تموت الأحلام (4)| الرجل الأول.. قصة نبيلة غنيم "المنوفية"

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

للمرة الأولى على مدار العمر الطويل ينغلق علينا باب واحد في ذلك المبنى الضخم، أنظر إليك مليًا وأنت مُمدد على سريرك لا يشاركني فيك أحد، لأول مرة أتلمس وجهك الجميل، كم أنت عظيم، كبير، لك هيبة لم أحسها في كل مَنْ قابلتهم من الرجال على مدار عمري، أعرف أن الكثيرات من النساء تمنين الحديث معك، والاقتراب منك، لجاذبيتك الشديدة وثبات خطواتك وسمتك الرزين، كُنَّ يتهافتن عليك، يتآمرن ويتراهن على من تفوز بك!!

وأنت بكل عظمة وعزم تجاهد نفسك حتى لا تقع في شراك إحداهن.. يستشطن غضبًا ولا تبالي.

ذكريات لك فيها مواقف لا تُنسى، كل شيء مطبوع في ذاكرتي، رحلة طويلة من الشموخ والقوة والكرم.. نعم كان كرمك حاتمي مع الجميع، وهذا ما أربكني وجعلني لا أعرف: كيف تجتمع كل الصفات الجميلة مع القسوة؟! كيف نحب ونكره في وقتٍ واحد؟!

لم تنكسر أبدا أمام أي موقف مهما كانت شدته، فما هذه القوة التي هزمتك اليوم هكذا؟!

أقف على مقربة منك، تأخذني الرهبة، أتذكر قسوتك ونظراتك التي كانت تجعلني أغوص داخل نفسي وأتمنى ألا أعود لأرى تلك النظرة المخيفة، العسكرية علمتك الضبط والربط، فكنت تُطَبِق قواعدها علينا، تضع أغلالك حول أيدينا وأرجلنا حتى تستطيع عد خطواتنا والحد من جنوحنا وتطلعاتنا، فلم يجرؤ أحد أيا مَنْ كان على التمرد عليك، واليوم يؤلمني أن أرى معدتك تتمرد عليك، وتقذف ما بها أثر ذلك المرض اللعين، المرض الخبيث الذي تسلل إلى معدتك ليهدم عنفوانك وثباتك..

أندم على ذلك اليوم البعيد الذي تمنيت فيه موتك لأتخلص من تلك الأغلال التي كنت تفرضها علينا، لم أكن أعرف أنني أحبك بهذا القدر، لم أكن أعلم أن العالم كله يقف لي إكبارا لك، فذلك الشاب الذي أراد مغازلتي أوقفه زميله بلكمة موجعة، ينبهه بها أنني ابنتك، وعلى الفور وضع الشاب يده على فمه وكأنه يعتذر على تطاوله على بنت الأكرمين.

 

أتمعن في النظر إليك، كم تحمل ملامحك الطِِيبة والسماحة، اختفت حدة الملامح ولم تبق إلا ملامح الفطرة التي خلقك الله عليها. 

آه يا حبيبي، كم تمنيت الاقتراب منك في سنوات عمري الأولى، كنت أغار من كل زميلاتي وهن يرتمين في أحضان آبائهن.. لا أنكر أنني حاولت كثيرا الاقتراب منك، لكن هيبتك ورهبتي من قسوتك كانت تُبعدني، اليوم أقترب منك دون رهبة، انتظر لحظات الإفاقة لأستمتع بالحديث معك، مشاعر رهيبة تجتاحني وأنا أضع يدي على جبهتك، وأنت تضع يدك فوق يدي امتنانًا.. كأن تيارًا من الحب سرى من شرايينك لشراييني، وهل ما يجري في شراييني سوى دمك أنت؟!

رافقنا في الغرفة اليوم رجل يئن من الألم، وأسرته حوله تتمنى له الشفاء، ينظرون إلينا من آن لأخر.. الغريب أنهم ظنوا أنى زوجتك، سألتني أحداهن: والدك هذا أم زوجك؟

نظرتُ إليك، وجدتك تبتسم، فقلت لها مازحة: زوجي..                                                  

أسعدني اتساع ابتسامتك وهمسك لي: يا كدابه.

بات الكل حولنا يعرف أنني زوجتك، حتى أن إحدى النساء سألتني وأنت نائم: ليه واحده في جمالك وشبابك تتجوز راجل أد أبوها؟!.

لم أجبها، وعدت لأنظر إليك بوجد وحب، أتحسس جبينك واطبع قبلة حييه عليه.. توثقت الرابطة التي تجمعنا لدرجة جعلتني أعتذر إليك لعدم معرفتي الحقيقية بك، واعتذرتَ لي على أنك لم تستمتع بكل هذا الحب الذي تلقيته منا في أخر أيامك معنا.. وأسررتُ لي بأن خوفك الشديد علينا جعلك قاسيًا دون أن تدري، فكرة الخوف قيدت تدفق نهر الحب وكبلت عواطفك التلقائية.

تمنيتُ أن تبدأ الحياة من جديد، أعود الطفلة التي تجرى لترتمي بين أحضان والدها.. يحملها، يحضنها، يدللها، تشعر بحنانه كباقي أقرانها، يضحك معي كما يفعل الآن، نتجاذب أطراف الأحاديث، استمتع بوجودك في حياتي.. أناديك بأجمل كلمة حُرِمتُ قولها كل عمري لأنني أهاب الحديث إليك.. 

أبي.. أرددها الآن كل ثانية.. أناديك في كل جملة أتحدث بها معك.. يالها من كلمة حب غاية في الجمال.. أبي.. الرجل الأول في حياتي...  أبي الذي لا مثيل له.. أين البداية؟!

آه من البدايات التي تنتهي قبل أن تبدأ، والنهايات التي تموت في البداية.

 نبيلة غنيم ليسانس آداب – اجتماع. جامعة عين شمس، كاتبة قصةعضو اتحاد كتاب مصر وعضو مجلس إدارة نادي أدب شبين الكوم  وقد صدر لها كتاب همس السعادة (كتاب اجتماعي) ثم أربعة مجموعات قصصية منها "دموع البنفسج" و"حرف نابض" ومجموعة "أنصاف مشاعر" وبالمركز الأول فى مسابقة إقليم غرب ووسط الدلتا الأدبية للقصة القصيرة عن قصة (الرجل الأول).

494816037_9725586317532268_6405958041163348054_n
494816037_9725586317532268_6405958041163348054_n
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق