كريم وزيري يكتب: طبق الانتقام لا يُقدم إلا باردًا

الفجر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

"طبق الانتقام لا يُقدَّم إلا باردًا"، جملة شهيرة تحمل في طياتها فلسفة كاملة عن فكرة الانتقام، لا باعتباره فعلًا لحظيًا متسرعًا تدفع إليه العاطفة، بل كخطة متقنة يتطلب تنفيذها هدوءًا شديدًا وتجردًا من الانفعال، ليأتي الانتقام في لحظة يكون فيها الخصم في أضعف حالاته، ويكون المنتقم قد تحرر من مشاعر الغضب، فيتذوق كل طرف الطبق على طريقته.

أصل هذه المقولة أوروبي، إذ يقال إن أول من استخدمها بهذا الشكل كان الروائي الفرنسي " بيير شاردان " في القرن الثامن عشر، قبل أن تنتقل إلى الأدب الإنجليزي بصياغة قريبة، وقد راجت عالميًا في الأدب والسينما، وأصبحت عنوانًا لفلسفة كاملة في الانتقام الهادئ المتعقل.

ولا يمكن الحديث عن الانتقام البارد دون ذكر رائعة الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما، "الكونت دي مونت كريستو"، وهي واحدة من أعظم الروايات التي تناولت فكرة الانتقام الهادئ، وبطل الرواية "إدموند دانتيس" شاب بريء يتعرض للخيانة من قبل أصدقائه الذين يتآمرون لإبعاده وسجنه ظلمًا.

وبعد سنوات طويلة قضاها في زنزانة موحشة، يخرج دانتيس ليخطط للانتقام من كل من خانه، ولا يتحرك بدافع الغضب، بل بخطة منظمة ذكية تمتد لسنوات، يُسقط فيها خصومه واحدًا تلو الآخر دون أن يدركوا أنه هو الرجل العائد من ظلام السجن.

وفي الفيلم الكلاسيكي "The Princess Bride" (1987)، يتجسد المعنى ذاته في شخصية "إينغو مونتويا"، الذي ظل طوال حياته يبحث عن قاتل والده، رلم يكن الانتقام بالنسبة له فعلًا لحظيًا، بل هدفًا يعيش من أجله، وعندما يلتقي أخيرًا بالقاتل. 

وفي سلسلة أفلام وروايات "هانيبال"، يتحول البطل هانيبال ليكتر من طبيب نفسي إلى قاتل متسلسل ينتقم من كل من ظلمه بطرق غاية في الذكاء والبرود، وأشهر مشهد حين يجلس مع أحد خصومه على العشاء ليُقدّم له طبقًا يتبين لاحقًا أنه من جسده.

أما في الجانب الإنساني السياسي، يمثل نيلسون مانديلا نموذجًا نادرًا للانتقام المتعقل، حيث رفض بعد خروجه من السجن الانتقام التقليدي من النظام العنصري الذي سجنه 27 عامًا، واختار مانديلا أن يكون "انتقامه" أعظم  بأن يصبح رئيسًا للبلاد ويوحد شعبها، في انتقام راقٍ بارد يجعل الخصم يرى انتصارك وعلوك الأخلاقي أمام عينيه، قد يكون من أرقى أشكال "طبق الانتقام البارد"، الذي يذل الخصم دون إراقة دم.

ولكن السؤال هنا، لماذا يُفضل أن يكون الانتقام باردًا، والحقيقة في أن الحكمة من هذه المقولة أن الإنسان في حالة الغضب يكون أقرب للخطأ، أما حين يهدأ، ويُخضع الأمور للعقل والتفكير، يصبح قادرًا على اتخاذ قرارات أكثر تأثيرًا وأشد وقعًا، فالانتقام المتسرع قد يُفقد المنتقم قيمته أو يحوله إلى نسخة من خصمه، بينما الانتقام البارد يبقي المنتقم في موقع القوي المتحكم، يحرك خيوط المشهد بوعي لا بانفعال.

وفي علم النفس، يشير علماء الاجتماع إلى أن الرغبة في الانتقام تمر بمراحل، وهي الغضب، الانفعال، التفكير، ثم التنفيذ، وأن أفضل لحظة لتنفيذ الانتقام — إن وجب — هي بعد الوصول لمرحلة السيطرة التامة على الذات.

ورغم كل ما سبق من قصص ومواقف، يبقى السؤال هل الانتقام فعل يستحق العناء؟ الإجابة نسبية، ففي بعض الحالات يكون استعادة الكرامة وإثبات القوة ضرورة نفسية، وفي أحيان أخرى، يكون التجاوز والانتصار بالنسيان أبلغ، لكن في جميع الأحوال، إن قُدر للإنسان أن ينتقم، فليكن ذلك بعيدًا عن الانفعال، بهدوء المتحكم، ليُقدم الطبق كما تقول الحكمة القديمة "باردًا". 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق