فى مشهد يعكس تحولات جذرية فى مسار الصراع السوري، فجّر السفير الأمريكى السابق فى سوريا، روبرت فورد، مفاجأة من العيار الثقيل حين كشف عن سلسلة لقاءات جمعته بأحمد الشرع، المعروف سابقًا بأبى محمد الجولاني، الزعيم الجهادى الذى أصبح اليوم رئيسًا انتقاليًا لسوريا.
تصريحات فورد، التى جاءت خلال محاضرة فى مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، لم تمر مرور الكرام، إذ أعادت فتح ملف العلاقات الغربية مع قادة الجماعات المسلحة، وأثارت جدلًا واسعًا حول حدود البراغماتية السياسية، ومشروعية "إعادة تأهيل" شخصيات مثيرة للجدل.
فبين ماضٍ حافل بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، وحاضر سياسى يسعى إلى بناء شرعية جديدة، يقف الشرع عند تقاطع حساس بين الصورة التى تسعى أطراف دولية لترويجها، وواقع لا يزال يثير انقسامًا داخل سوريا وخارجها. فى هذا التقرير، نغوص فى خلفيات هذه العلاقة، سياقها التاريخي، ردود الفعل التى أثارتها، والدلالات الأعمق التى تختزنها.
خلفية عن روبرت فورد
روبرت فورد هو دبلوماسى أمريكى مخضرم، شغل منصب السفير الأمريكى فى سوريا بين عامى ٢٠١١ و٢٠١٤، وهى فترة شهدت بداية الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد. كان فورد معروفًا بدعمه لتسليح فصائل المعارضة السورية المعتدلة، وهو ما جعله شخصية بارزة فى السياسة الأمريكية تجاه سوريا.
قبل ذلك، عمل فورد فى مناصب دبلوماسية أخرى، بما فى ذلك سفير الولايات المتحدة فى الجزائر (٢٠٠٦-٢٠٠٨) ونائب رئيس البعثة الأمريكية فى بغداد (٢٠٠٨-٢٠٠٩). خبرته الواسعة فى المنطقة جعلته مرشحًا للتعامل مع قضايا حساسة مثل إعادة تأهيل شخصيات مثيرة للجدل.
خلفية عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)
أحمد حسين الشرع، المولود فى ٢٩ أكتوبر ١٩٨٢ فى الرياض بالسعودية لعائلة سورية سنية من مرتفعات الجولان، هو قائد عسكرى وسياسى سورى يشغل منصب الرئيس الانتقالى لسوريا منذ ٢٩ يناير ٢٠٢٥.
بدأ مسيرته كمقاتل فى تنظيم القاعدة فى العراق قبل الغزو الأمريكى عام ٢٠٠٣، وتم اعتقاله من قبل القوات الأمريكية بين ٢٠٠٦ و٢٠١١. بعد إطلاق سراحه، أسس جبهة النصرة فى سوريا عام ٢٠١٢ كفرع لتنظيم القاعدة، ثم قطع علاقته بالتنظيم عام ٢٠١٦ ليؤسس جبهة فتح الشام، ولاحقًا هيئة تحرير الشام فى ٢٠١٧.
قاد الشرع هجومًا خاطفًا فى ديسمبر ٢٠٢٤ أدى إلى سقوط نظام الأسد، وأصبح رئيسًا انتقاليًا لسوريا. خلال السنوات الأخيرة، حاول الشرع تقديم صورة أكثر براغماتية، مركزًا على الحكم المحلى بدلًا من الجهاد العالمي.
تفاصيل العلاقة بين فورد والشرع
فى محاضرة ألقاها فى ٥ مايو ٢٠٢٥ أمام مجلس العلاقات الخارجية فى بالتيمور بولاية ميريلاند، كشف روبرت فورد عن تفاصيل لقاءاته مع أحمد الشرع، موضحًا أن مؤسسة بريطانية غير حكومية متخصصة فى حل النزاعات دعتْه فى عام ٢٠٢٣ للمساعدة فى "إعادة تأهيل" الشرع لتحويله من زعيم جماعة متطرفة إلى سياسي.
اللقاءات
التقى فورد بالشرع ثلاث مرات:
مارس ٢٠٢٣ فى إدلب.
سبتمبر ٢٠٢٣ فى إدلب.
يناير ٢٠٢٥ فى القصر الجمهورى بدمشق، بعد تولى الشرع الرئاسة الانتقالية.
هدف اللقاءات
بحسب فورد، كانت هذه اللقاءات جزءًا من جهود دولية لدمج الشرع فى العملية السياسية، حيث خضعت هيئة تحرير الشام لتدريبات مكثفة أشرف عليها خبراء وسفراء وضباط استخبارات أمريكيون وبريطانيون. الهدف كان تحويل الشرع من قائد عسكرى إلى شخصية سياسية قادرة على إدارة مرحلة انتقالية فى سوريا.
تفاصيل اللقاء الأول: فورد وصف تجربته الأولى مع الشرع بمزيج من التوتر والفكاهة، قائلًا: «كنت مترددًا فى البداية، وتخيلت نفسى مرتديًا بدلة برتقالية والسكين على رقبتي، لكننى قررت المحاولة بعد التحدث مع آخرين سبق لهم التعامل معه».
عندما جلس إلى جانب الشرع، قال له بالعربية: «خلال مليون سنة لم أكن أتخيل أننى سأكون جالسًا بجانبك»، فأجاب الشرع بهدوء: "ولا أنا".
موقف الشرع
أشار فورد إلى أن الشرع لم يعتذر عن أعماله السابقة المرتبطة بجبهة النصرة أو القاعدة، لكنه أبدى وعيًا بأن أساليب حرب العصابات غير مناسبة لإدارة منطقة مثل إدلب التى تضم ٤ ملايين نسمة. هذا يعكس تحولًا براجماتيًا فى نهج الشرع.
رد الرئاسة السورية
نفت الرئاسة السورية تصريحات فورد، مؤكدة أن اللقاءات التى أشار إليها كانت ضمن زيارات بروتوكولية عامة لعرض تجربة إدارة إدلب بعد النزاع. وأوضح مصدر رسمى فى الرئاسة لقناة الجزيرة أن فورد كان ضمن وفد تابع لمنظمة بريطانية للدراسات والأبحاث، وأن الجلسات اقتصرت على نقاشات عامة دون أى طروحات لتأهيل الشرع سياسيًا.
وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، رد على تصريحات فورد عبر منصة إكس، مؤكدًا أن ما تحقق فى ديسمبر ٢٠٢٤ كان "إنجازًا سوريًا بامتياز" نتيجة صمود الشعب السوري، وليس بفضل تدخلات خارجية.
ردود الفعل والجدل
أثارت تصريحات فورد ردود فعل متباينة:
فى سوريا: اعتبر البعض تصريحات فورد دليلًا على تدخل غربى فى صياغة القيادة السورية، مما أثار انتقادات من أوساط معارضة للشرع ترى أن دوره ارتبط بأجندات خارجية.
على منصة إكس: تفاعل مستخدمون مع تصريحات فورد، حيث وصفها البعض بـ"الفضيحة"، مشيرين إلى أنها تكشف عن تدوير شخصيات مثيرة للجدل لخدمة مصالح غربية. آخرون شككوا فى مصداقية الرئاسة السورية بنفيها لهذه اللقاءات، متسائلين عن طبيعة وجود فورد فى إدلب إذا لم تكن هناك أهداف سياسية
فى الإعلام الدولي: تناولت وسائل إعلام مثل BBC وCNN هذه التصريحات، مشيرة إلى أنها تسلط الضوء على التحولات فى صورة الشرع من زعيم جهادى إلى سياسى براغماتي.
السياق التاريخى والتحولات
تحول الشرع: منذ عام ٢٠١٦، بدأ الشرع بإعادة صياغة صورته، متخليًا تدريجيًا عن خطاب الجهاد العالمي. أعلن قطع علاقاته بتنظيم القاعدة، وأسس هيئة تحرير الشام التى ركزت على الحكم المحلى فى إدلب. هذه الخطوات جعلته مرشحًا محتملًا للتعامل معه من قبل جهات دولية.
دور الغرب: تصريحات فورد تشير إلى استراتيجية غربية لدمج شخصيات مثل الشرع فى العملية السياسية، خاصة بعد فشل المفاوضات مع نظام الأسد. هذا يتماشى مع سياسات سابقة لدعم فصائل معارضة معتدلة، كما دعا فورد خلال عمله كسفير.
إدلب كمركز للتجربة: كانت إدلب، التى سيطرت عليها هيئة تحرير الشام، نموذجًا للحكم المحلى الذى حاول الشرع من خلاله إثبات قدرته على إدارة مناطق مدنية، مما جعلها نقطة جذب للقاءات مع جهات دولية.
التداعيات المحتملة
سياسيًا: تصريحات فورد قد تعزز الجدل حول شرعية الشرع كرئيس انتقالي، خاصة بين الأوساط التى ترى أن دوره ارتبط بتدخلات خارجية. هذا قد يؤثر على قبول الحكومة الانتقالية داخليًا وخارجيًا.
دبلوماسيًا: قد تثير هذه التصريحات توترات مع دول مثل روسيا وإيران، اللتين كانتا داعمتين لنظام الأسد، خاصة إذا رأت أن الغرب لعب دورًا مباشرًا فى صعود الشرع.
اجتماعيًا: فى سوريا، قد تؤدى هذه التصريحات إلى تعميق الانقسامات بين مؤيدى الشرع ومعارضيه، خاصة أن ماضيه كقائد لجبهة النصرة لا يزال مثيرًا للجدل.
الخلاصة
علاقة روبرت فورد بأحمد الشرع تُظهر مدى تعقيد التفاعلات السياسية والدبلوماسية فى سوريا خلال المرحلة الانتقالية. تصريحات فورد تكشف عن جهود غربية لتحويل الشرع من زعيم عسكرى إلى سياسي، لكن نفى الرئاسة السورية لهذه الرواية يعكس حساسية الموضوع.
بينما تستمر التحولات فى سوريا، تبقى هذه العلاقة محط نقاش حول دور القوى الخارجية فى تشكيل المستقبل السياسى للبلاد.
0 تعليق