تُعدّ رواية "متاهة الأوهام" لمحمد سعيد احجيوج نصًا لا يقتصر على سرد قصة، بل يتجاوز ذلك ليصبح تأملًا في عملية نشوئه.
يشاهد القارئ الكاتب وهو يصارع أفكاره على الورق، ليكتشف أن هذا الصراع نفسه يصبح جوهر الرواية، وأن الروائي يدرك هذا التداخل ويجعله جزءًا أساسيًا من لعبته السردية.
يدفع احجيوج حدود التداخل بين الكاتب والشخصية، بين الواقع والنص، لتصبح أكثر ضبابية وإثارة للحيرة.
عالم مواز
تستهل "متاهة الأوهام" والصادرة عن دار نوفل بتقديم ثلاث نسخ من شخصية "محمد"، كل منها يعيش في عالم موازٍ، وكلها تواجه معضلة جوهرية واحدة: كيف يحافظ الكاتب على استقلاليته الإبداعية في عالم يسعى باستمرار إلى توجيه قلمه؟ هذا السؤال، وإن لم يكن جديدًا في تاريخ الأدب، إلا أن احجيوج يطرحه بطريقة جديدة ومثيرة. فبدلًا من السرد المباشر عن كاتب يواجه ضغوطًا خارجية، يضع القارئ داخل وعي هذا الكاتب ليشاركه الضغوط، وحتى اتخاذ القرارات المصيرية.
مكالمة غامضة
تُعدّ المكالمات الهاتفية الغامضة التي تتكرر في القسم الأول خيطًا يشد القارئ إلى عمق النص، وهي في الوقت نفسه استعارة بارعة للأصوات الخارجية التي تحاول التدخل في عملية الإبداع. فالصوت الأنثوي، الذي يعرف تفاصيل حياة الكاتب الحميمة ويظهر ويختفي بغموض، يمكن قراءته على مستويات متعددة: صوت الإلهام المتقطع، الإغراء التجاري، أو حتى صوت الضمير الذي يذكر الكاتب بمسؤولياته. هذا التعدد في الاحتمالات التأويلية يثري النص ويجعله مفتوحًا على قراءات متنوعة.
عندما ينتقل السرد إلى مكتب العميد (ش) في مديرية مراقبة التراب الوطني (المخابرات الداخلية)، يبدو المشهد وكأنه مقتبس من رواية جاسوسية تقليدية، لكن توظيفه هنا مختلف تمامًا. العميد لا يطلب من الكاتب التوقف عن الكتابة، بل يطلب منه كتابة نوع مختلف يخدم أجندة معينة. هذا التفصيل يكشف عن فهم عميق لطبيعة الرقابة المعاصرة، التي لا تمنع الكتابة بقدر ما تحاول توجيهها وترويضها. يمكن قراءة الحوار بين الكاتب والعميد كحوار رمزي بين الإبداع الحر والسلطة، ولكنه أيضًا حوار واقعي يعكس تجارب العديد من الكتاب العرب. ما يزيد هذا المشهد تعقيدًا هو أن العميد نفسه يبدو مثقفًا ومتذوقًا للأدب، وهو لا يعرض على الكاتب المال والجائزة فحسب، بل يعرض عليه أيضًا قصة حقيقية ومثيرة ليحولها إلى رواية.
هنا يطرح احجيوج سؤالًا أخلاقيًا معقدًا: إذا كانت القصة المقترحة جيدة بالفعل، وإذا كان المقابل مغريًا، وإذا كان البديل هو الصمت أو المواجهة القاسية، فما هو الخيار الأخلاقي؟
من السرد إلى عالم النشر
ينتقل السرد إلى عالم النشر، حيث يواجه الكاتب نوعًا آخر من الضغط، ألا وهو ضغط السوق والربحية. الحوار مع الناشر مكتوب بذكاء بالغ، فهو يقدم كل الانتقادات المحتملة للرواية التجريبية بصوت واقعي ومقنع. الناشر ليس شخصية كاريكاتورية شريرة، بل رجل أعمال له همومه ومبرراته الواقعية، وحتى إكراهاته. عندما يخبر الناشر الكاتبَ أن القراء يريدون حكايات بسيطة ولغة شعرية فخمة، فهو لا يكذب؛ هذا بالفعل ما يطلبه جزء كبير من الجمهور. لكن احجيوج من خلال هذا الحوار يطرح سؤالًا مهمًا حول مسؤولية الكاتب: هل عليه أن يلبي رغبات الجمهور أم أن يحاول تطوير ذائقته؟ الجميل في هذا الحوار أنه لا يقدم إجابة قاطعة، بل يترك السؤال مفتوحًا. حتى الكاتب نفسه في الرواية يبدو مترددًا أحيانًا، وهذا التردد إنساني وصادق، فالكثير من الكتاب يواجهون هذه المعضلة يوميًا، بين الرغبة في التجريب والحاجة إلى الوصول لجمهور أوسع، بين الطموح الفني والضرورات المعيشية.
كاتب مفقود
في القسم الثالث، تتغير القواعد كليًا. يجد القارئ نفسه مع بطل لا يعرف من هو، مكلفًا بالعثور على كاتب مفقود يحمل اسم المؤلف نفسه. هذا التطور يأخذ الرواية إلى أبعاد ميتافيزيقية جديدة، كما لو أن احجيوج يشير إلى أن المشكلة ليست في الضغوط الخارجية فقط، بل في أزمة الهوية نفسها. من هو الكاتب؟ وما هي حدود شخصيته؟ وأين تنتهي هويته الحقيقية وتبدأ الشخصية الأدبية التي يخلقها؟ هذا النوع من التساؤل الوجودي يتقاطع مع تجارب عالمية في الأدب، لكن احجيوج يضيف عليه بعدًا عربيًا خاصًا، فالكاتب المفقود هنا ليس مجرد شخصية أدبية، بل رمز للمثقف العربي الذي فقد بوصلته في عالم متغير. يصبح البحث عنه بحثًا عن الهوية الثقافية المفقودة، عن دور المثقف في مجتمع يمر بتحولات عاصفة.
سري للغاية
تضيف المشاهد التي تتخذ مكانها في المستشفى النفسي طبقة أخرى من التعقيد. هل الكاتب مريض بالفعل أم أن المرض هو الطريقة التي يراه بها المجتمع؟ وهل تجاربه مع العلاج بالكهرباء استعارة للمحاولات العنيفة لغسل دماغ المثقفين وإعادة برمجتهم؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة، خاصة عند قراءة الوثائق السرية المضمنة في النص، والموصوفة بـ "سري للغاية"، والتي تتحدث عن التجارب النفسية.
متاهة الأوهام
ما يميز "متاهة الأوهام" عن كثير من التجارب السردية المعقدة هو أنها لا تتعقد لمجرد التعقيد، بل لأن التعقيد ضروري للتعبير عن حالة معقدة بالفعل. يكتب محمد سعيد احجيوج، صاحب رواية "أحجية إدمون عمران المالح" ورواية "كهف الألواح"، عن عصر تختلط فيه الحقائق بالأكاذيب، والواقع بالخيال، والذكريات بالتلفيقات. في هذا السياق، يصبح السرد الخطي التقليدي غير كافٍ، لأنه لا يستطيع أن يحمل هذا التعقد في الخبرة الإنسانية المعاصرة. تطرح الرواية أيضًا أسئلة مهمة حول العلاقة بين الكاتب والنص: من يخلق من؟ هل الكاتب هو الذي يخلق الشخصيات أم أن الشخصيات هي التي تخلق الكاتب؟ وماذا يحدث عندما تصبح هذه الحدود غامضة؟ هذه الأسئلة ليست مجرد ألعاب فلسفية، بل لها أبعاد عملية مهمة في فهم طبيعة الإبداع وتأثيره على صاحبه.
تُعدّ "متاهة الأوهام" عملًا جريئًا ومتماسكًا رغم تعقيده الظاهر. يحتاج إلى قارئ صبور ومتأنٍ، لكنه يكافئ هذا القارئ بتجربة فريدة وثرية. تفتح الرواية حوارًا ضروريًا حول مستقبل الأدب العربي وإمكانياته، وتثبت أن التجريب ليس مجرد موضة، بل ضرورة للتعبير عن واقع متغير ومعقد. قد لا تناسب كل الأذواق، لكنها بالتأكيد تستحق الاهتمام والتقدير لجرأتها وأصالتها وعمق أسئلتها.

0 تعليق