ارتبطت الحرب الدائرة في أوكرانيا، منذ فبراير 2022، بمسارات عديدة ومتنوعة وأعلنت دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأمريكا عقوبات اقتصادية ومالية ضد روسيا الاتحادية. وامتدت نيران الحرب إلى أسعار المحروقات وارتفاع الكهرباء وأزمة الحبوب ونزوح جماعي لملايين الأوكرانيين إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وانقسم العالم بين مؤيد ومعارض حول توصيف طبيعة اختراق جيوش بوتين للحدود الأوكرانية في فبراير 2022 بين تسمية “العمليات الخاصة” أو “الحرب” سواء داخل مجلس الأمن الدولي أو الاتحاد الأوروبي أو منظمة الاتحاد الإفريقي وغيرها من التكتلات الاقتصادية والسياسية، حيث مال أغلب أعضاء البريكس إلى مساندة ومساعدة الرئيس بوتين.
لقد انتظر العالم قدوم الساكن الجديد بالبيت الأبيض دونالد ترامب، الذي رفع شعار السلام وأنه سينهي كل الحروب سواء في الشرق الأوسط أو أوكرانيا… وأربكت بذلك السياسية الخارجية لإدارة ترامب 2.0 أجندة دول الاتحاد الأوروبي التي صادقت على ميزانيات ضخمة للتسليح واستقبال المهاجرين الأوكرانيين أو برامج الإعمار بعد نهاية الحرب؛ فالإدارة الأمريكية الجديدة جاءت بمصطلحات جديدة وانتظارات جديدة، من قبيل الرفع من ميزانيات التسليح ووقف المساعدات لأوكرانيا و”الأراضي النادرة ” وإشراك الرأسمال الأمريكي في أنبوب الغاز “ستريم 2″، وبث مشاورات مباشِرة من “المكتب البيضاوي” وبحضور الإعلام سواء مع زيلينسكي أو ماكرون أو كير ستارمر أو مارك كارني…
من جهة أخرى، فقد عرفت كل هذه الأحداث مواكبة إعلامية قوية وغير مسبوقة، بنشر تقارير وُصف بعضها بالسري وكذا بإصدار كتب بلغات متعددة مناصرة لهذا التيار أو لذاك، وتفاعل الشارع الغربي ضد دعوات رفع ميزانيات التسليح على حساب السياسات الاجتماعية welfare.
كما عرفت، من جهة ثانية، مبادرات وساطات ومفاوضات دبلوماسية سواء من الرئيس الفرنسي ماكرون أو أردوغان أو الرئيس الصيني الذي قدم خطة سلام لم تلقَ تأييد دول الغرب.
ولم تكن عودة ترامب 2.0 هي المتغير الوحيد في معادلات الحل والسلام في ملف أوكرانيا سنة 2025؛ بل هناك متغير قوي آخر، ويتعلق الأمر بالبابا ليون الرابع عشر الساكن الجديد بمقر البابوية بروما، بعد موت البابا فرانسيس الأول في شهر أبريل من هذه السنة، إذ لم يكن الإعلان عن استعداد الفاتيكان باستضافة مسلسل السلام بين موسكو وأوكرانيا حدثا للاستهلاك الإعلامي أو وصلة تسويق العهد الجديد للحبر الأعظم الجديد. بل كلنا يتذكر زيارة البابا فرانسيس الأول لمقر سفارة روسيا لدى الفاتيكان غداة إعلان روسيا الحرب/ العمليات الخاصة باختراق الحدود الأوكرانية ومطالبته بوقف إطلاق النار في فبراير 2022. أكثر من هذا فقد أوفد الكاردينال ماتيو ماريا زوبي من أجل جس نبض مسلسل السلام بين موسكو وكييف، بتبادل السجناء وعودة الأطفال.
ويبدو أن إشكاليات السلام والحرب لن تحسم على طاولات الدبلوماسيين فقط، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الحرب؛ بل هناك لاعب آخر تدفعه صعوبة المفاوضات الدبلوماسية إلى الخروج من منطقة الظل، ويتعلق الأمر ببابا الفاتيكان.
تخبرنا صفحات التاريخ عن أدوار الفاتيكان في إنهاء محطات كثيرة من الصراع وتجنب الحروب؛ ومنها صراع إسبانيا والبرتغال لاقتسام العالم في عهد البابا ألكسندر السادس سنة 1493، ومحاولة البابا بينديكث 15 لإنهاء الحرب العالمية الأولى، ودور البابا بيو الثاني عشر في الحرب العالمية الثانية، ودور جمعية سانت ايجيديو التابعة للفاتيكان في إنهاء حرب “العشرية السوداء” بالجزائر في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، وغير ذلك من المحطات التاريخية الفاصلة تجعلنا من جديد أمام سؤال العلمانية والغايات الإنسانية، أي البحث عن سلام عادل…!
لكن تصريح السيد سيرجي لافروف، وزير خارجية روسيا، وقوله بأن سيناريو مفاوضات السلام برعاية الفاتيكان أمر غير واقعي… وأضاف أن من بين الملفات الساخنة هي تدمير الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية من طرف السلطات في كييف؛ فتصريح سيرجي لافروف يجب ألا يمر مرور الكرام، إذ إن الرجل معروف بهدوئه وخبرته وذهائه… لذلك، فإن حديثه عن الهوية الدينية (أورثودوكسية) لأوكرانيا وروسيا وعن بطريكية موسكو كسلطة دينية / روحية وحيدة يمكنها رعاية عمليات السلام… ليس مناورة سياسية؛ بل كان يعني ما يقول، ويعري عن صراع قديم / جديد بين الكاثوليك والأورثودوكس…
وهو بهذا يعزز قرار موسكو برفض استضافه مقر الفاتيكان لمسلسل مفاوضات السلام.. والرفض هو نابع من عدم ثقة موسكو في الفاتيكان، إذ يعتبره حليفا طبيعيا للغرب… وهنا يجب استحضار الصراع التاريخي الطويل بين تياري المسيحية الكاثوليك (الغرب) والأورثودوكس (الشرق) وتداعيات سقوط القسطنطينية والإمبراطورية المقدسة وتاريخ طويل من الصراع انتقل أكثر من مرة إلى إعلان حروب دموية…!
اليوم، نحن أمام أحداث جديدة وواقع جديد، حيث تجري مفاوضات بين مسيحيين فوق أرض تركيا (العثمانيين ) المسلمة. ساهم تصريح وزير خارجية روسيا لافروف في تقريب قراءة صورة الصراع من زاوية الدين والهوية الدينية لكل من روسيا وأوكرانيا..
أعتقد أن البابا ليون الرابع عشر يبحث عن محطة سلام عادل يطبع بها بداية مشواره الباباوي، ليس بين موسكو وكييف فقط؛ بل بين الكاثوليك والأورثودوكس، ويكمل ما بدأه سلفه البابا فرانسيس الأول سواء بلقاء البطريق كيريل في مطار هافانا بكوبا سنة 2016 أو المحادثات عبر الويب أثناء الحرب في أوكرانيا منذ سنة 2022… في الآن ذاته يثير العديد من المحللين صعوبة إعادة ثقة موسكو في الفاتيكان، مستحضرين الدور الفاصل للبابا جون بول الثاني (البولوني) في إنهاء المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي وإسقاط حائط برلين..
إننا نعيش عودة الحديث عن الهوية الدينية للدول الأوروبية وجعلها أحد مفاتيح الحرب والسلام، وتمسك السياسيين بالمؤسسات الدينية وإشراكها في عمليات البحث عن السلام العادل المفقود؛ وعلى رأسها مؤسسة الفاتيكان.. وهنا، نستحضر اللقاء الأخير بين ترامب وزيلينسكي برحاب كنيسة القديس بطرس أثناء جنازة البابا فرانسيس الأول، وأن تدبير المجال الروحي والشرعية الدينية هو من بين أعقد الملفات وأشدها حساسية رغم كل ما قيل ويقال عن تراجع الشأن الديني (الكنيسة) في الغرب فلا يزال رجال الدين بالغرب يقفون في الصفوف الأمامية إلى جانب رجال السياسة ولا يزال الجميع ينتظر إطلالة البابا و”عظته الأسبوعية” من النافذة المطلة على ساحة القديس بطرس…
لكل هذا، فإن أغلب مفاوضات السلام التي استثنت الفاعل الديني لم تكن تعلن نهاية حرب بقدر ما كانت إعلان هدنة أو تأجيل استئناف الحرب إلى وقت لاحق..
0 تعليق