شواطئ.. الرؤية التأريخية في خُماسية مدن الملح (3)

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يتابع دكتور محمود معروف فى كتاب " الرؤية التأريخية في خماسية مدن الملح.. دراسة تأويلية " والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقولة: كما تحفل الخماسية بالشخصيات التى تجسد نموذج السلطان، ومنها: السلطان خريبط، والسلطان خزعل، والسلطان فنر، ويتفاعل هذا النموذج السلطوى فى النص مع غيره من النماذج وفق صيغتين: (الدموية والتبعية)، فهو دموى وطاغية ومهيمن مع النموذج المحلى الشعب، وتابع ومطيع ومهان مع النموذج الأجنبى، يعمل كا ما فى وسعه من أجل إرضاء الآخر، وكلما ازدادت قبضة الأجنبى عليه ازداد قمعه وإرهابه لأبناء شعبة، ذلك أن هذه الشخصية لا تستمد شرعيتها من الشعب وإنما من الآخر الأجنبى الذى صنعها لخدمة مصالحه الخاصة.   

أما السلطان خزعل فقد جمع خصائص تلك الطبقة الحاكمة، فالحديث عنه هو حديث عن هذه الطبقة، خصائصها وممارساتها وتطلعاتها، وتناقضاتها مع غيرها من الطبقات، فخزعل لم يفترق عن أبيه السلطان " خريبط" فى شىء، فقد حكم بعقلية أبيه ومنطقه، وكل ما تميز به هو أنه بدأ بإطلاق اسمه على أماكن لا حصر لها فى (موران) والمدن الأخرى، فالمدراس التى باسمه توجد فى كل مدينه وقرية، وكذلك الشوارع والساحات. 

تحفل الغة عند الكاتب بأسلوب درامى مؤثر يغلب عليه الطباع الغنائى، إنه رثاء الكاتب للوطن المفقود بقيمه البائدة وأناسه الغافلين، إنه يذكرنا بوقوف الشاعر الجاهلى أمام الطلل الدارس يساءله ويناجيه ويعيد إليه الحياة ن لقد كان صوت العجوز وهى تحتضر ريح مقبله أو استغاثة بعيدة، زكأن العجوز تجسد نهاية الوادى، وكان صوت احتضارها الذى يسمعه أهل الوادى يحمل إليهم مشاعر مختلفة بين ريح التغيير القوية المقبلة التى أتت على الأخضر واليابس فى واديهم، واستغاثتهم المكتومة من ذلك الظلم الذى لحق بهم، حينما ظلموا أنفسهم، حيث اضطروا إلى ترك أرضهم وديارهم عندما تخلوا عن إنقاذ الأمريكان، وتخلوا عن متعب الهذال وهو يتصدى لهذا التغيير أمام الأمير ممثل الحكومة، إنهم الآن يستغيثون، لكن ما من مغيث ! لذلك لم يعد لديهم سوى الإحساس بندب القلب، وتلك الذكريات الحزينة التى بقيت لهم من حياتهم الماضية، فقد أصبحت حياتهم بين الذكريات والضياع، إنهم الآن فى اللاشىء ذى الطعم الكاوى الذى سبب لهم جرحا مفتوحا يدمى أبداص – عندما فقدوا هويتهم- إلا إذا استفاقوا ورجعوا. 

ومن مشاهد الوصف التى تؤرخ لتغير الحياة فى وادى العيون ذلك المشهد الذى ساقة الكاتب معتمدا فى كل أجزائة على الوصف واللغة التصويرية المؤثرة سواء عن طريق الكلمات أو أحرف ذات تأثيرات مقصودة، أو بإقامة التضاد بين ما كان وما سوف يكون، إنه وصف لنهاية الحياة فى وادى العيون، حيث يقول: " فى ذلك اليوم الخريفى البعيد. كانت الأشياء والأمكان والحياة، حتى تلك اللحظة، تتململ فى لاصمت الحزين الهادىء وكأنها ستبقى هكذا إلى الأبد، لكن صرخة قوية انفجرت فى المعسكر، وبانفجارها غير المتوقع.. بدأت الحياة تتغير". 

ويميل البشر لأن يكونوا إشكاليين يقاومون فى مجتمع منحط، لكن من خلال المجموع فــ"مدن الملح " لا تنتهى ببادية الظلمات وإنما تطل علينا وبوجه آخر من خلال رواية منيف الأخيرة " الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى". فأحد أبطالها وهو " طالع العريفى " يروى فى المنفى تفاصيل سجنه وتعذيبه فى (موران)، يعتقل فى (سوق الحلال ) ويطاف به من سجن إلى سجن، إن السجن برؤيته من الداخل كان غائبا فى " مدن الملح لأنها كانت ترصد تحول الخارج، لكن الكاتب يعود إلى السجن هذه المرة من داخل العدائية المطلقة، من داخل السجن، ومنذ أيام خريبط. 

هكذا تستفيد " مُدن المِلح" من الملحمة دون أن تكونها ودون أن تفارق كونها رواية واقعية، لأن الرواية تعنى بعناصر واقعية أخرى، حيث يوظف الرواي عناصر كثيرة فنية وغير فنية لخدمة حكايته الأصلية التى تغنى حوارية الرواية وتعددية أصواتها. فهم يستخدم التراث الشعبى والغربى، الأمثال والأهازيج، المعتقدات والأساطير الشعبية..، كل هذا يخدم القضية التى، كشف الواقع والحقائق وإضائتها، هذا بالإضافة إلى أشكال أخرى غير أدبية، تحمل صوت اليومى والمعيش، الرسائل والمذكرات اليومية والتقارير الرسمية، والمقالات الصحفية. 

إن كل هذا يجعل الرواية تغوص عميقًا فى أنماط السرد المخنلفة فى التراث العربى والشعبى بشكل خاص، إن الزمكان فى النص يضرب بجذورة، يعمل كمعادل للزمكان خارج النص والذى فقد جذوره الحقيقية وأصبح هشًا وقابلًا للتلاشى فى أية لحظة، إن الرواية تكتسب غناها وجمالها وشاعريتها من خلال امتزاج هذه العناصر لتعبر عن روية معينة للواقع. 

إنَّ فى حنين منيف إلى الألفة والجمال الإنسانى، إلى مدن حقيقية، رغبة فى ملامسة زمن قادم لا التراجع عنه، هذه الملامسة تعنى صياغته بشكل إنسانى، لتتحول المدن إلى أوطان حقيقية. إن الأمل فى الرواية يتسلل بطيئا خلال الظلام، من حديث السجناء فى السجن، حتى من الشخصيات التى تمثل السلطة. هكذا ندرك – من خلال منيف – أن الزمن القادم مخبأ فى الزمن الحاضر الذى بين أيدينا وعلينا أن نشكل ملامحه إذا أردنا، تمامًا كما كان هذا الزمن الذى نعيشه مخبأ فى الزمن الماضى / فما خيارنا ؟!. وإذا كانت " مدن الملح " تبدو مظلمة ومتشائمة، فلأنها لا تريد تجميل الواقع المظلم، ثم هى تريد أن تستفز القارىء، وتطرح عليه سؤالها المالح، وماذا بعد؟!وما الذى ستفعلة؟! إن ذلك يتم عبر رؤية تراوح بين السخرية والمرارة، مما حدث ويحدث وسيحدث، فهذا الواقع القائم يثير السخرية بقدر ما يثير المرارة، فهذه الثروة- النفط – كان يمكن أن تخلق مدنًا إنسانية وتدفع باتجاه الحضارة، لكن الذى حدث ويحدث هو العكس، فماذا بعد؟.

وخلاصة القول: إن " مدن الملح " رواية تروى التحولات الكبرى التى عاشها مجتمع الخماسية بعد اكتشاف النفط، والانعكاسات السلبية المترتبة عنها سواء أكان على صعيد البشر أم على صعيد المكان، فقد أسهم النفط فى إنشاء مدن مالحة، استوردت ما أمكنها من الحديد، والأسمنت والآلات وأحدث التقنيات، دون أن تعى أن وجودها مرتبط بوجود النفط.                                                                                                 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق