عبد الرحيم على يفتح ملفات التنظيم الدولى.. «الأفكار الشيطانية» قراءة حول الإسلام السياسى فى مواجهة قيم الجمهورية
فى قلب المشهد الفكرى الأوروبى الذى بات منشغلاً أكثر من أى وقت مضى بفهم آليات التنظيمات العابرة للحدود، جاء كتاب الدكتور عبد الرحيم على رئيس مجلس إدارة المركز العربى للصحافة ورئيس مجلسى إدارة وتحرير "البوابة" تحت عنوان "الأفكار الشيطانية.. أوروبا فى مواجهة التنظيم الدولى للإخوان" (Les Idées Diaboliques: L'Europe Face à l'Organisation Internationale des Frères Musulmans)، عن دار النشر الفرنسية المرموقة "لارماتان". يقع الكتاب فى ١٥٠ صفحة من القطع الكبير، ويقدّم قراءة نقدية معمّقة لأخطر ما أنتجته عقلية جماعة الإخوان من أفكار ومقولات، مستعرضًا آراء مؤسسها حسن البنا، والمفكر الأكثر تأثيرًا فيها سيد قطب، إضافة إلى رموزها العقائدية والتنظيمية، فى مجالات مثل الديمقراطية، المرأة، الفن، الموقف من الآخر، واستخدام العنف كأداة سياسية.
مواجهة فكرية
الكتاب، الذى قام بترجمته إلى الفرنسية الباحث الراحل أسامة خليل، تم الاحتفاء به حال صدوره وكان دليلا لعدد من البرلمانيين والسياسيين وصناع القرار فى فرنسا، من خلال الندوات والمناقشات الفكرية، لما يحمله من أهمية خاصة فى السياق الأوروبى المتخوف من تغلغل الإسلام السياسى عبر مؤسساته الناعمة وشبكاته العابرة للحدود. ففى ظل تصاعد القلق الأوروبى من أنشطة التنظيم الدولى للإخوان، يجيء هذا العمل كصرخة تنبيه لا تخلو من أدوات التحليل السياسى والتفكيك الإيديولوجي، مدعومة بتوثيق تاريخى وقراءة فكرية تُعرّى خطاب الجماعة من قشرته الدعائية البرّاقة.
وليس هذا الكتاب سوى حلقة فى سلسلة من الأعمال التى كرّس لها عبد الرحيم على قلمه وجهده فى تعرية مشروع الإسلام السياسي، إذ سبق له أن نشر عن دار "لارماتان" ذاتها كتابين بارزين: "دولة الإخوان.. دراسة فى النشأة والحركة والانتشار"، و"داعش.. إعادة توزيع الخرائط فى منطقة مضطربة". ومع كل إصدار، يتّسع أفق المواجهة الفكرية ضد سرديات العنف المموّه، ويتأكد دور عبد الرحيم على كصوت عقلانى وجرئ، يقف فى مواجهة التطرف، لا من بوابة الأمن فقط، بل من صميم المعرفة.
قراءة فى المضمون
فى الجزء الخاص بالموقف من الأقباط، الاخوان وحرية الاعتقاد يتبنى عبد الرحيم على مدخلًا تحليليًا يعتمد على فتاوى منشورة رسميًا فى مجلة "الدعوة"، لسان حال الإخوان فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، ليكشف كيف أن الجماعة تنظر لغير المسلمين، وخصوصًا الأقباط، بوصفهم "أهل ذمة" لا مواطنين، ولا يحق لهم بناء الكنائس، أو إعلان شعائرهم، أو حتى دفن موتاهم بين المسلمين. ويذهب المفتى الإخوانى حد التحريض على منعهم من المجاهرة بطقوسهم أو السلوك بما يخالف "الشريعة".
وتبدو ذروة الصدمة حين تُقارن هذه الفتاوى بما يطرحه الإخوان من شعارات فى الغرب: "حرية، مواطنة، تعايش، حوار أديان". إذ يتضح أن هذه الشعارات ما هى إلا أدوات تكتيكية فى بيئة سياسية ديمقراطية لا يؤمنون بها أصلًا، كما تؤكد تصريحات قديمة لمرشدهم الأسبق مصطفى مشهور الذى رفض أداء الأقباط للخدمة العسكرية، لأنهم – حسب رأيه – ليسوا من "أهل الجهاد".
ويرصد عبد الرحيم على كيف تجلى هذا الفكر المتشدد عمليًا فى عام حكم محمد مرسى (٢٠١٢-٢٠١٣)، حين تزايدت حوادث الاعتداء على الكنائس، وتورطت قيادات إخوانية فى تأجيج الكراهية، ومنها تصريحات مباشرة لخّيرت الشاطر ومحمد البلتاجي، حمّلوا فيها الأقباط مسئولية المظاهرات ضد "الحكم الإسلامي". وبعد سقوط مرسي، جاء الانتقام بحرق الكنائس فى الصعيد والاعتداء على ممتلكات مسيحيين فى مشهد غير مسبوق.
تحريض لا يقتصر على الداخل
فى السياق الفرنسي، أصبح من الضرورى فهم هذا النمط من الفكر، لا لأنه يهدد المسلمين فحسب، بل لأنه يقدم نموذجًا خطرًا على القيم الجمهورية الغربية: فهو لا يعترف بفكرة المواطنة خارج الولاء العقدي، ويستبدل الدولة الوطنية بما يسميه "دار الإسلام"، ويحارب مفاهيم الحرية والتعدد باسم "تحكيم الشريعة"، التى تحتكر الجماعة تفسيرها.
من هنا تأتى أهمية الكتاب فهو لا يحذر من المسلمين كديانة، بل من مشروع الإسلام السياسى الذى يمثله الإخوان: مشروع لا يعترف بالقانون الوضعي، ولا بالمساواة، ولا بالحرية، ولا بالتعدد.
ويسأل عبد الرحيم على بشكل مباشر الإخوان المسلمين: إذا كانت هذه هى فتاواكم، فكيف تطالبون الناس بتصديق حديثكم عن التسامح والتعايش؟ وإن كانت هذه الفتاوى لا تمثلكم، فلماذا لا تعلنون البراءة منها صراحةً؟ لا يترك عبد الرحيم على الباب مواربًا: فإما أن تتنكر الجماعة لتراثها الفقهى التحريضي، أو أن تُدان صراحة بوصفها جماعة تتبنى "الإقصاء العقدي" كأيديولوجيا، وتغلفه بخطاب براجماتى مخادع.
لا يمكن قراءة "الإخوان وحرية الاعتقاد" باعتباره مجرد جزء من كتاب عن الشأن القبطى فى مصر. إنه يعبر عن أزمة جماعة لا تؤمن بالآخر، ولا تطيق التعدد، لكنها تحترف لغة العصر لخدمة مشروعها النكوصي. الترجمة الفرنسية للكتاب لم تكن ترفًا فكريًا، بل واجبًا أمنيًا ومعرفيًا، ليفهم الغرب حقيقة هذه الجماعة التى تتقن فنون الاختراق، لكنها لا تستطيع إخفاء أيديولوجيا الكراهية طويلًا.
الديمقراطية شعار بلا ممارسة
لطالما تباهت جماعة الإخوان المسلمين، فى خطابها العام، بانحيازها للديمقراطية وحرية الرأى وحق الشعوب فى اختيار من يحكمها. غير أن كتاب عبد الرحيم على يكشف، عبر تحليل معمّق لشهادات إخوانية من داخل التنظيم، تناقضًا صارخًا بين الشعار والممارسة، بين ما تقوله الجماعة للعامة، وما تطبقه على أعضائها فى الخفاء.
وينطلق عبد الرحيم على من سؤال مركزي: هل أزمة الإخوان مع الديمقراطية ناتجة عن انحراف بعض القيادات؟ أم أن الإشكال يكمن فى بنية التنظيم ذاته؟ والإجابة تأتى واضحة عبر شهادات من قيادات تاريخية وكوادر من مختلف الأجيال، تكشف أن غياب الديمقراطية ليس طارئًا، بل مكوّن عضوى فى بناء الجماعة.
عبد الرحيم على لا يعتمد فى تحليله على اجتهاداته فقط، بل يقدّم وثائق حية من داخل التنظيم، بدءًا من الرعيل الأول مثل فريد عبد الخالق وحسان حتحوت، وصولًا إلى جيل الشباب مثل سامح عيد وعصام سلطان، ما يمنح الكتاب قوة توثيقية قلّ نظيرها.
ومن أبرز القضايا التى يناقشها الكتاب:
غياب الشفافية التنظيمية: إذ تُعامل اللوائح كأسرار لا يُطّلع عليها حتى القواعد، فى مخالفة صريحة لأى مبدأ ديمقراطي.
التقديس القيادي: حيث يُقدَّم الولاء للقيادة على الاجتهاد أو الحوار، ويُعتبر النقد خروجًا عن الصف.
انعدام التوازن بين الحقوق والواجبات: كل المواد التنظيمية تركز على واجبات العضو، دون أى ذكر لحقوقه أو ضمانات له.
السمع والطاعة بوصفهما عبادة: كما قال المرشد مصطفى مشهور، "لن تحقق الجماعة أهدافها إلا إذا سمع أفرادها وأطاعوا تعبُّدًا"، ما يحوّل الطاعة من التزام تنظيمى إلى مبدأ عقدى يقتل التفكير.
العنف الرمزى
ويكشف عبدالرحيم على أيضًا كيف تمارس الجماعة نوعًا من العنف الرمزى داخل صفوفها: من فصل المخالفين، إلى وصفهم بـ"الفتنة"، إلى خلط التنظيم بالدين، بحيث يصبح نقد الجماعة معاداةً للإسلام. هذه الممارسات ولّدت بيئة طاردة، دفعت بالكثير من الكوادر التاريخيين إلى الاستقالة، ومنهم الغزالى والباكورى والحتحوت.
أما على صعيد البنية التنظيمية، فيصفها عبد الله النفيسى بأنها "عقبة أمام الدعوة الإسلامية"، لأنها تحتكر السلطة داخل دائرة ضيقة، وتعتمد بنية مغلقة لم تعد تناسب زمن المؤسسات والانفتاح.
فى اللحظة التى وصلت فيها الجماعة إلى الحكم، عبر الرئيس المعزول محمد مرسي، تلاشى الخطاب الديمقراطي، وظهر السلوك الإقصائى والاستعلائي. يكشف عبد الرحيم على أن تلك اللحظة لم تكن استثناء، بل كانت تتويجًا لمسار طويل من التنشئة على الطاعة وتهميش الحوار واحتقار الرأى الآخر.
قيمة الكتاب أنه لا ينطلق من خصومة أيديولوجية مع الإخوان، بل يستند إلى نقد ذاتى من داخل الجماعة. الشهادات التى يوردها – من جميع الأجيال – تجمع على أن أى إصلاح داخلى أصبح مستحيلًا، وأن الديمقراطية بالنسبة للإخوان ليست قناعة، بل وسيلة مؤقتة.
ويؤكد عبد الرحيم على أن الخطر الحقيقى ليس فى شعار "الإسلام هو الحل"، بل فى استخدام هذا الشعار لتبرير قمع الحريات باسم الدين، واحتكار السلطة باسم الشورى، وتغليف الديكتاتورية بغطاء إيماني.
فى عصر يتوق فيه العرب للديمقراطية الحقيقية، يكشف هذا الكتاب زيف أكثر الجماعات ادعاءً بها، ويضع الإخوان أمام مرآة مؤلمة لحقيقتهم: جماعة لا تعرف من الديمقراطية إلا ما يخدم بقاؤها.
المرأة فى فكر الإخوان: بين الشريعة والتسلط الذكوري
وجه متسلط، ذكوري
رغم كل ما تدعيه جماعة الإخوان المسلمين من تمسك بمبادئ الشريعة وحرصها على قيم العدل والكرامة، يكشف عبد الرحيم على عن وجه آخر لهذه الجماعة: وجه متسلط، ذكوري، يُقصى المرأة من المجال العام، ويُقزّم دورها إلى حد التبعية المطلقة، والتقوقع داخل جدران البيت. وهذا ليس اجتهادًا ذاتيًا للمؤلف، بل دراسة موثقة تستند إلى نصوص حسن البنا، وسيد قطب، وفتاوى مجلة "الدعوة" الرسمية للجماعة.
ما يميز عبد الرحيم على أنه لا يناقش فكر الإخوان من خارجهم، بل يستخدم نصوصهم ليحاكمهم بها. يربط بين ما كتبه مؤسس الجماعة حسن البنا، وما بثه سيد قطب فى "فى ظلال القرآن"، وما أفتى به محمد عبد الله الخطيب، المفتى الرسمى للجماعة، فى مجلة "الدعوة"، التى تمثل المرجع الفقهى الحقيقى للتنظيم فى النصف الثانى من القرن العشرين.
ففى فكر البنا، لا حضور مستقل للمرأة، ولا مساواة حقيقية. شعاراته عن "تكافؤ الرجل والمرأة" مجرد حيلة لغوية تخفى دونية عميقة. هو يطالب بمناهج تعليمية خاصة للنساء، ويفرض الفصل بين الجنسين، ويرى البيت "المقر الطبيعي" للمرأة. ما إن تخرج من هذا الإطار حتى تصبح مصدرًا للفساد والانحلال.
كما ينقل الكتاب صورة أشد قتامة فى فكر سيد قطب، الذى يرى أن تعليم المرأة على نمط الرجل "شذوذ"، وأن خروجها إلى العمل جزء من مخطط غربى – يهودى – صليبى لتفكيك المجتمعات الإسلامية. فى تفسيره للقرآن، تصبح المرأة مجرد أداة جنسية، لا دور لها فى المجال العام، ولا مكان لها فى "نيابة الله عن الأرض" التى تقتصر على الرجال فقط.
مؤامرة صليبية
وبرز عبدالرحيم على عدد من فتاوى الجماعة التى تعمل على تجريم المرأة وتأليه القوامة الذكورية من خلال المرجع الفقهى للجماعة مجلة "الدعوة"، حيث تظهر المرأة ككائن خاضع بالكامل للرجل:
عملها استثناء مشروط بالضرورة، ومشروط بعدم "الاختلاط".
تنظيم الأسرة مؤامرة صليبية تهدف لتقليل أعداد المسلمين.
جسدها عورة بالكامل، ووجهها نفسه فتنة يجب سترها.
حتى خروجها للصلاة فى المساجد غير مستحب!
رفض صريح لتولى أى مناصب عامة، استنادًا لحديث "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".
لنجد المفارقة الكبرى، كما يكشفها عبد الرحيم علي، تتجلى فى التناقض بين الخطاب الداخلى والخارجى للجماعة. ففى حين تُحرم المرأة من أغلب حقوقها داخل الأدبيات العربية للتنظيم، نجد المستشار مأمون الهضيبى – فى مقال منشور باللغة الإنجليزية فى Harvard International Review – يدافع عن مشاركة المرأة فى السياسة، والعمل، وتولى الوظائف العليا، ما عدا "الإمامة العظمى". الكاتب يفضح هذه الازدواجية باعتبارها حيلة دعائية موجهة للرأى العام الغربي، لا تعكس حقيقة الفكر الإخواني.
ومن أشد النقاط صدمة فى الكتاب، الفتوى التى تشرعن ختان الإناث، وتعتبره وسيلة "لمنع الغريزة"، بدعوى أن المرأة إذا لم تُختن "اندفعت إلى ما لا يجوز"! هنا، تنكشف الرؤية القمعية التى تنكر على المرأة حتى متعتها الجنسية المشروعة، وتعتبرها مصدر تهديد أخلاقى لا ينضب.
ليُظهر عبد الرحيم على بوضوح أن موقف الإخوان من المرأة ليس اجتهادًا فقهيًا يمكن تطويره، بل رؤية عقدية، تتعامل مع المرأة ككائن ناقص العقل والدين والإنسانية. كل محاولات التجميل التى تصدر عن بعض المتحدثين الإخوانيين ليست سوى ذر للرماد فى العيون. فى الجوهر، تتبنى الجماعة فكرًا يختزل المرأة فى جسدها، ويمنعها من المشاركة فى الحياة العامة، ويحمّلها مسئولية أخلاق المجتمع بالكامل.
فى زمن تطالب فيه الشعوب العربية بمزيد من الحريات والعدالة، يبدو فكر الإخوان عن المرأة محاولة لجرّ المجتمع قرونًا إلى الوراء. والكتاب الذى نناقشه الآن ليس فقط وثيقة نقدية، بل إنذار مبكر لكل من يحاول إعادة تدوير هذا المشروع فى عباءات حداثية براقة.
الإرهاب.. الوجه الآخر للجماعة
ويضع عبد الرحيم على القارئ أمام مرآة مشروخة يرى فيها الحقيقة المرة، بعيدة عن مساحيق الخطابة والشعارات الدينية. الكتاب، وإن كان يحمل عنوانًا تقليديًا، إلا أن مضمونه يكشف صفحات منسية، ويعيد فتح ملفات مسكوت عنها فى ذاكرة التنظيم الذى رفع شعار "الإسلام هو الحل"، لكنه فى الواقع – كما يقول المؤلف – "استخدم الدم هو الطريق"
منذ السطور الأولى، يلفت عبد الرحيم على النظر إلى أن جماعة الإخوان تتعامل مع نفسها وكأنها الوكيل الحصرى لله على الأرض. فكل من يعارضها، يُصنّف عدوًا لله، وبالتالى يصبح هدفًا مشروعًا لـ"الجهاد" بحسب قاموسهم. هذا الفهم – بحسب الكتاب – ليس جديدًا، بل زرعه المؤسس حسن البنا، وسقاه سيد قطب بأفكاره الدموية، حتى أينعت شجرة إرهاب قُطفت ثمارها فى كل مرحلة تاريخية من عمر الجماعة.
واحدة من أكثر أجزاء الكتاب إثارة، هو ما يتعلق بـ"التنظيم الخاص"، الذراع العسكرية السرية للجماعة. يظهر هذا الجهاز كما لو كان جمهورية داخل التنظيم، بهيكل متكامل من الجيش والشرطة والاستخبارات، ومهامه تبدأ من تدريب المقاتلين فى الجبال، إلى الاغتيالات النوعية فى قلب القاهرة.
ولا يكتفى المؤلف بسرد الوقائع، بل يعرض اعترافات قادة التنظيم أنفسهم من كتبهم، كاشفًا أن قتل القاضى أحمد الخازندار، ومحاولة نسف محكمة الاستئناف، كانت "اجتهادات إيمانية" بغطاء دينى لا يعترف بالقانون ولا الدولة.
المرجعية الكبرى للحركات المسلحة
وفى منعطف درامى آخر، يستعرض الكتاب التحول الصادم فى فكر سيد قطب، من ناقد أدبى إلى منظّر للفكر الجهادي. ومن خلال فصول متتابعة، يسلط الضوء على كيف تحوّل قطب إلى المرجعية الكبرى لكل الحركات المسلحة، من "الفنية العسكرية"، إلى "الجماعة الإسلامية"، وصولاً إلى "القاعدة" و"داعش".
عبد الرحيم على لا يكتفى بنقد قطب، بل يفكك لغته، ويواجه الحجة بالحجة، ليؤكد أن ما زرعه الرجل فى ظلاله، تحول إلى وقود للقتل باسم العقيدة.
بعد ثورة ٣٠ يونيو، تتعرى الجماعة أمام أعين الجميع. تنكشف الأقنعة، وتتحول الميادين إلى ساحة حرب. حرق كنائس، اقتحام أقسام شرطة، كمائن لرجال الجيش، وقنابل على أبواب الجامعات. لا تبريرات هنا، بل وقائع مسجلة بالصوت والصورة، تثبت أن الجماعة – حسب وصف المؤلف – "إما أن تحكم.. أو تحرق الدولة بمن فيها".
"الإخوان والإرهاب" ليس مجرد جزء من كتاب، بل صرخة من بين الركام، يطلقها الكاتب ليحذر من مشروع أيديولوجى لا يؤمن بالديمقراطية ولا يعرف التعدد. مشروع يسير على لغم، ويزرع الألغام فى طريق الأوطان.
وفى ظل محاولات متكررة لـ"غسل السمعة"، يقدم عبد الرحيم على هذا العمل كوثيقة مكتوبة بالدماء لا بالحبر فقط، يطلب منّا أن نقرأها جيدًا قبل أن نقع فى فخ الشعارات مرة أخرى.
من الوثيقة الفكرية إلى التحذير السياسي
فى مواجهة هذا التمدد الصامت الذى يتخذ من الدين عباءة ومن المؤسسات المدنية منصات، تبدو أوروبا، وفرنسا على وجه الخصوص، وكأنها استفاقت متأخرة أمام مشروعٍ طويل النفس، متعدد الوجوه، ومحكم البنيان. كتاب عبد الرحيم على "الأفكار الشيطانية.. أوروبا فى مواجهة التنظيم الدولى للإخوان" ليس فقط جرس إنذار فكري، بل شهادة تحليلية موثّقة عن خطورة هذه الجماعة، التى تتقن لعبة الأقنعة، وتتسلل عبر ثغرات المجتمعات المفتوحة لتبنى ما يشبه "دولة داخل الدولة"، بخطاب ناعم ومنهج صارم.
وحين أصدرت فرنسا تقريرها الشهير "الإخوان المسلمون والإسلام السياسى فى فرنسا"، الذى جاء نتاج تحقيق ميدانى دقيق امتد لأشهر، بدت فصول كتاب عبد الرحيم على وكأنها قد كُتبت فى توقيت متقاطع مع هذا التقرير، بل جاءت مكملة له. فالتقرير لم يعد يتحدث عن هواجس نظرية، بل كشف بالأرقام والخرائط أن ١٣٩ دار عبادة إسلامية فى فرنسا تدار بشكل مباشر من قبل الإخوان، إلى جانب ٢٨٠ جمعية تعمل فى كافة مفاصل المجتمع من التعليم إلى المال، بهدف إعادة تشكيل هوية الجالية المسلمة وفقًا لأيديولوجيا الإخوان، لا وفقًا لقيم الجمهورية.
وهنا تبرز أهمية كتاب "الأفكار الشيطانية" بوصفه ليس مجرد تحليل لتاريخ الإخوان أو تفكيكًا لأدبياتهم، بل خارطة تفسير لما يحدث على الأرض. إنه يمدّ صانع القرار الأوروبى بالبوصلة اللازمة لفهم منطلقات التنظيم الدولي، وكيفية تحوّله من دعوة دينية إلى شبكة نفوذ مؤسسية تُراكم السلطة تحت غطاء البراءة. تتلاقى شهاداته مع التقرير الفرنسى عند نقطة مفصلية: أن هذا التنظيم لا يعمل من أجل الدعوة، بل من أجل السلطة، وأن خطره لا يكمن فى العنف العابر، بل فى التغلغل البنيوى طويل الأمد.
فى النهاية، لا يمكن لأوروبا أن تحارب هذا المشروع إلا عبر معرفة بنيته الداخلية، وفهم لغته المزدوجة، وكشف استراتيجياته الخفية. لقد جاءت فرنسا متأخرة قليلًا، لكنّ كتابًا مثل هذا، وتقريرًا بحجم ما صدر مؤخرًا، يفتحان الطريق أمام نقاش جاد لا يدور حول الإسلام كدين، بل حول الإسلام السياسى كسلطة موازية. وفى هذا السياق، لا يعود "الأفكار الشيطانية" مجرد عنوان لكتاب، بل توصيفًا دقيقًا لمشروع اختلط فيه المقدس بالسلطة، والوعظ بالهيمنة، والفتوى بالتحريض.
0 تعليق