إياك أن تصدّقَ أن الحبيبَ يستطيع أن يقتل نفسه أو من يحبّه مهما كان الدافع، ولتعلم أن الحبَّ لا يقتل لأنه عكس الموت تمامًا.. فهو الحياة! أمَّا الجرائم الغريبة التي أصبحنا نُصدم من بشاعة تفاصيلها، فهي وراءها أمراض تحتاج علاجًا نفسيًا للمرضى الذين يرتكبونها والمجرمين المحتملين في المستقبل!
للأسف المرض مستشري ولكنْ ليس هناك وعي كافٍ لدى المرضى والمحيطين بهم بأنهم يحتاجون علاجًا تحت إشراف أطباء نفسيين. وما دام هناك إنكارٌ للمرض، ومقاومة لفكرة طلب العلاج فسوف يتأخر الشفاء ويؤجل الإصلاح المجتمعي، وسنظلُّ نُفاجأُ بالجرائم البشعة كلَّ حين. أقول ذلك وقد آلمني والكثير مثلي من إقدام شاب على الانتحار منهيًا حياته التي كانت تساوي الكثير لدى أفراد أسرته. وقد يقول قائل إنه تعرض لضغوط شديدة وربما شعر بظلم لا يستحقه. لكن ما يجعلنا نفرق بين شخص سليم وشخص مريض هو أن الأول عندما يتعرض للضغوط والشعور بالظلم والاكتئاب لا يقدم على الانتحار أما الثاني فيسقط فريسة لمشاعره ويفشل في مواجهة واقعه المرير فيتخلص من حياته التي هي أكثر قيمة ثمينة نتربى على تقديرها من منطلق ديني وإنساني؛ وإذا غاب هذا الوعي بهذه القيمة فبالتأكيد يقبع وراء ذلك مرض نفسي، ربما لا يكون ظاهرًا للعيان، وحتى للشخص نفسه!
المرض النفسي ليس وصمة عار كما أنه لا يعني جنونًا فكلنا مرضى بدرجات؛ وتصل نسبة انتشار الأمراض النفسية بين البالغين (18-64) إلى 12% وفقًا لدراسة أجرتها الأمانة العامة للصحة النفسية فى مصر بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية. هذا يعني أن هناك حوالي 8 ملايين شخص على الأقل يعانون من مرض نفسي، منهم من يتم حجزه ومنهم من لا يحتاج سوى التردد على العيادات والمتابعة مع الطبيب. ويذكر المسح الحديث لعام 2018 أنّ نسب وأعداد المرضى ربما لا تتمتع بالدقة الكافية حيث أنها أقل من الواقع بسبب عدم إبلاغ الكثيرين عن أمراضهم النفسية لتلافي وصمة العار من المجتمع الذي مازال في حاجة ماسة للتوعية حتى يتقبّل أمراضه ويواجهها ويعالجها. وندركُ تمامًا أنه في حال توفّر الوعي الكافي بالمشكلة يزول نصفها، أما إذا ما تُركت فإنها بالتأكيد تتفاقمُ.
وعندما يرتكبُ المريضُ جريمةً تجاه الآخرين أو حتى تجاه نفسه فهذا يعني أنَّ المرضَ النفسيَّ تمكّنَ من صاحبه في غفلةٍ منه، ومن أهله أيضا، لدرجة أصبح يشكِّلُ خطورة على نفسه وغيره. والحلُّ في العلم، وليس الشعوذة أو التبرير ودسّ الرؤوس في الرمال؛ لذلك استشارة العلماء الثقات في هذا التخصص أمر لا غنى عنه. وليتنا نفعلُ جميعًا مع أنفسنا دون تردد أو مكابرة فعندنا من العقد التي تتحول إلى أمراض مزمنة ما تنأى الجبالُ بحمله!
المهم في هذا الحديث عن الانتحار -الذي لا أريد الخوض في تفاصيله- هو علاقته بالأمراض النفسية وضرورة الوعي بها بشكل مبكّر حتى لا نترها تتفاقم! لكن لا ينبغي أيضا أن نتوهّمَ أنّ المجتمع المصري يفوق مجتمعات العالم في أمراضه النفسية بل قد يكون مثلها أو يقلُّ عنها حيث أن الاحصاءات الصادرة من منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن النسبة الطبيعية في المجتمعات تكون في حدود 25%، وتتفاوت أنواعها. وتستيقظ المجتمعات الغربية يوميا على حوادث انتحار بشعة، لأسباب خاصة لدى المنتحرين، في ظاهرها سلوك انفعالي أو ردود فعل انفعالية غاضبة إزاء مواقف شخصية أو عامة، لكن في باطنها تعكس أمراض نفسية غالبا هي الدافع الرئيسي وراء الإقدام على الانتحار وعادة ما يكون المنتحر قد ارتكب الفعل الانتحاري عدة مرات من قبل!
وفي حين يلجأ غالبية المرضى في الدول المصنفة الأعلى دخلًا لطلب العلاج النفسي نتيجة توفر الوعي وحملات التوعية وإتاحة خدمات الصحة النفسية مع ارتباط وثيق بنظام الرعاية الصحية الأولية، نجد على العكس من ذلك أنَّ 0.4% فقط من الذين يعانون من اضطرابات وأعراض نفسية في مصر يلجؤون للعلاج، وهي نسبة منخفضة للغاية مقارنة بالذين لديهم مشاكل نفسية.
حديث الصحة النفسية يطولُ وقد تتأخر الاستجابة لعلاج هذه الأمراض نظرا لأن الناس منهكين في الظروف الاقتصادية اليومية والمشكلات الاجتماعية المترتبة عنها خاصة في أعقاب عقد كامل من الاضطرابات التي غالبا ليس لدى الناس العاديين دور فيها بل هم ضحايا إن صح التعبير، لكن يظل الوعي بعلاج هذه الأمراض رفاهية!
مع ذلك سيكون لدينا الأمل دائمًا في علاج بعض الأمراض المنتشرة طال الوقت أو قصر. لكن يظل هناك مرض واحد يفتك بمجتمعاتنا دون أملٍ في علاجه وهو التسلط المجتمعي والتنمر وتبرير السلوك الخاطئ حتى لو فيه ظلم للآخرين، إضاقة لقلة الوعي الديني ولن يكون لهذه الأمراض الاجتماعية علاج إلا باستئصالها من جذورها. وهذا يحتاج نقلة نوعية حقيقية في الوعي والتربية والإصلاح والتنوير!
0 تعليق