العائلة المقدسة وجبل الطير.. ذكريات حيّة في قلب مصر

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في قلب صعيد مصر، وتحديدًا على الضفة الشرقية لنهر النيل بمحافظة المنيا، يقع “جبل الطير”، الموقع الذي لا يعلو فيه سوى صوت الصلاة، ولا يُرى فيه إلا مشهد الزائرين يتدفقون كالنهر.

هنا، مرّت العائلة المقدسة، بحسب الإيمان المسيحي، خلال رحلتها إلى أرض مصر، وهنا، تتجدّد الزيارة كل عام، ليس فقط لإحياء ذكرى تاريخية، بل لإعادة شحن الروح في مكان طاهر محفور في قلب الزمان.

بدأ موسم هذا العام يوم الخميس 22 مايو، وانتهى الخميس 29 مايو، في أسبوع كامل من الصلوات والتراتيل، اختلطت فيه مشاعر التعب بالرجاء، والأمل بالبكاء، والقداسة بالواقع.

 

كنيسة محفورة في الصخر.. وموسم له طقوسه

تتوسط كنيسة السيدة العذراء قلب جبل الطير، وهي كنيسة نادرة محفورة في الصخر منذ القرن الرابع الميلادي، وتُنسب بناؤها للملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين.

يقال إن العائلة المقدسة لجأت إلى مغارة داخل الجبل لمدة ثلاثة أيام، هربًا من بطش هيرودس، وهي المغارة نفسها التي ما زال الزائرون يدخلونها اليوم، بتخشع وتأمل.

تقول منى فؤاد، سيدة خمسينية جاءت من بني سويف:
“من أيام جدتي وإحنا بنروح جبل الطير بنحس إن المكان بيرجعنا للمحبة الأولى، ربنا بيكون قريب جدًا هنا”.

 

أيام مزدحمة بالإيمان.. والكنيسة لا تتّسع للمصلين
منذ بداية الموسم، بدت الطرق المؤدية إلى الجبل وكأنها أنهار بشرية، السيارات اصطفت لمسافات طويلة، والأكشاك المؤقتة انتشرت لتلبية احتياجات الزائرين.

وفي الداخل، تحولت الكنيسة إلى مساحة مشتركة للرجاء، حيث جلس البعض على الأرض، وآخرون وقفوا لساعات في انتظار لحظة صلاة أو تلاوة ترنيمة.

“فيه تعب؟ أيوه، بس فيه فرح وسلام 
سلام حقيقي مش بنحسه في أي مكان تاني”، هكذا علّقت مريم جرجس، شابة في العشرين من عمرها، جاءت مع والدتها من الفيوم.


و قال أحد الأباء: “الموسم مش مجرد ذكرى، دي دعوة للتجديد”

يقول أحد كهنة دير جبل الطير:

“الكنيسة ليست فقط أثرًا تاريخيًا، بل قلب نابض بالإيمان، كل زائر يضع شمعة أو يهمس بدعاء، كأنما يُعيد صياغة علاقته بالله. 
هذا الموسم ليس تذكارًا فقط، بل فرصة حقيقية للعودة إلى الله وتجديد الحياة”.

ويضيف:
“أكثر ما يفرحني هو رؤية الزوار من كل مكان، مسيحيين ومسلمين، كبارًا وصغارًا، يجتمعون في حب العذراء، هذا يؤكد أن جبل الطير لا يخص فئة، بل هو مكان مقدس للجميع”.

 

شهادة الزائرين: “نعود كل سنة وكأنها أول مرة”
لا يتوقف الزائرون عند الصلاة فقط، بل يحكون عن تجارب إنسانية لا تُنسى. 
تقول ماريان، أم لثلاثة أطفال:
“ابني كان مريض، وجيت طلبت شفاعة العدرا، وربنا فرّجها، ومن ساعتها وإحنا بنيجي كل سنة”.

بينما يقول عم سعيد، سبعيني مسلم من المنيا:
“أنا باجي كل سنة، بحب المكان وبحس براحة هنا. العذراء مكرمة عندنا برضو، وربنا واحد”.


من يوم ليوم.. كيف مرّ أسبوع العذراء في جبل الطير؟
الخميس (22 مايو): تدفّق الزائرين بدأ منذ الفجر، وكانت القداسات تُقام بالتوالي منذ التاسعة صباحًا.

الجمعة - السبت: الذروة، الزحام في كل مكان، محيط الكنيسة امتلأ بالبائعين والمجموعات الروحية، والقداسات امتدت حتى منتصف الليل.

الأحد - الثلاثاء: تقلّص العدد قليلًا، لكن الحضور ظل كثيفًا، خاصة من العائلات.

الأربعاء - الخميس (29 مايو): توافد الآلاف لتوديع الموسم، حاملين شموعهم وطلبات صامتة. 
في المساء، أعلنت آخر قداس انتهاء موسم العذراء لهذا العام.

 

المغارة.. قلب الذكرى وأيقونة التاريخ
داخل الكنيسة، مغارة صغيرة يقول المؤمنون إن العذراء والمسيح ويوسف النجار مكثوا فيها لثلاثة أيام. 
المكان مظلم نسبيًا، لكن الزوار يدخلونه بخشوع، يلمسون الجدران الصخرية، ويتمتمون بصلوات صامتة، هناك من يكتب ورقة أمنيات ويضعها بين الشقوق، وآخرون يكتفون بدمعة صامتة.

“المغارة دي مش بس حتة حجر.. دي شاهد على حضور سماوي مرّ من هنا”، تقول هالة وهي تمسح دموعها بهدوء.

بين الإيمان والتنظيم.. تطوّر ملموس في الخدمات
رغم الزحام الكبير الذي يشهده موسم العذراء كل عام، فإن الخدمات المقدّمة شهدت هذا العام تحسّنًا ملحوظًا، عكس جهودًا واضحة من الجهات المسؤولة في تنظيم وتأمين الزائرين. 
فقد تم تجهيز مرافق المياه، وتوفير نقاط طبية متنقلة، إلى جانب انتشار فرق المتطوعين والإرشاد، ما ساهم في تسهيل حركة الزوار وتلبية احتياجاتهم.

يقول أحد الزائرين من محافظة القاهرة:

“أنا باجي من سنين، السنة دي لقيت فرق حقيقي في التنظيم والنظافة والهدوء. الطريق كان ممهد، وفيه إشراف كويس جدًا جوه وحوالين الكنيسة”.

ورغم تزايد الأعداد يوميًا، حافظ المكان على نسق هادئ ومنظّم نسبيًا، جعل الزائرين يركّزون على الأهم: لحظة الصلاة ولقاء الروح بالمكان.


دعوات لتطوير المكان أكثر.. وتوثيق روحانيته

يطالب كثيرون بتحويل جبل الطير إلى مزار عالمي، يليق بتاريخ العائلة المقدسة. فإدراجه على مسار العائلة المقدسة المسجل في اليونسكو، فرصة كبرى لمصر لجذب السياحة الدينية، وتحقيق التنمية في محافظة المنيا.

يقول أحد الأباء هناك:

“نحن بحاجة لمزيد من الدعم الحكومي.. المكان يستحق أن يكون على خريطة العالم”.


جبل الطير.. أكثر من مزار

ليس جبل الطير مجرد كنيسة أو موسم ديني، بل هو رحلة كاملة نحو الروح، تحمل فيها الناس آلامهم وأحلامهم، ليودعوها في مكان عبرت منه العائلة المقدسة ذات يوم، وتركت فيه أثرًا سماويًا لا يُمحى.

هنا، تختلط الوجوه، وتتوحد الدعوات، وتعود النفوس خفيفة، كأنها شربت من نبع طاهر لا يُرى.. لكنه يُحس في القلب.

أخبار ذات صلة

0 تعليق