د. وائل كامل يكتب: من يشتري العقول؟.. "بين دول تستثمر في العلماء وأخرى تُفرّط فيهم"

كشكول 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مشهد يعكس عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع الأكاديمي والعلمي في مصر، شهدت إحدى الجامعات مؤخرًا استقالة جماعية لـ117 طبيبًا من أوائل خريجيها، في خطوة تعكس حجم الإحباط واليأس لدى الكفاءات الشابة. هؤلاء الأطباء، الذين يُفترض أن يكونوا النواة الأساسية لتطوير المنظومة الصحية في البلاد، اختاروا البحث عن مستقبل خارج حدود الوطن، حيث التقدير، والفرص، والبيئة المناسبة للإبداع.

هجرة العقول لم تعد ظاهرة طارئة، بل أصبحت واقعًا مستمرًا ومتصاعدًا. الآلاف من أساتذة الجامعات والباحثين المصريين ومدرّسي التربية والتعليم يلهثون وراء فرص عمل في الخارج، ليس رغبةً في الرفاهية، بل بحثًا عن أبسط حقوقهم في بيئة تُقدّر العلم وتحترم العقل، ورواتب تحقق لهم الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.

وفي مفارقة لافتة، وبينما نعاني في مصر من هروب العقول بسبب ضآلة الرواتب وتراجع الإنفاق على البحث العلمي، نشهد على الضفة الأخرى من العالم سباقًا لاحتضان تلك العقول. في الولايات المتحدة مثلًا، دفعت سياسة التقشف وخفض ميزانيات البحث العلمي في عهد ترامب عددًا من العلماء والباحثين إلى التفكير في الرحيل. لكن الفارق أن هناك من ينتظرهم ويفتح لهم الأبواب.

ففي فرنسا، أعلنت كلية "سنترال سوبيليك"، إحدى أعرق مؤسسات الهندسة، تخصيص ميزانية قدرها 3 ملايين يورو لاستقطاب العلماء الأمريكيين المتأثرين بتقليص الدعم في بلادهم. بلجيكا أيضًا، ودول أخرى، سارعت بخطة مشابهة، واضعة العقول في مقدمة أولوياتها، ومدركة أن الاستثمار في العلم هو استثمار في المستقبل.

في مصر، لا تزال الأزمة تدور في حلقة مفرغة: من يسبق من؟

"الواجبات أم المسؤوليات؟"
"البيضة أم الفرخة؟"

هل تُطالب الدولة أساتذة الجامعات بواجباتهم وبالالتزام، وهم يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة المهنية والإنسانية؟ أم يُطالب المجتمع الأكاديمي الدولة بالوفاء بواجباتها دون أن يبذل هو أقصى جهده لتقديم رؤية واضحة، وأداء حقيقي يخلو من الفردية والشللية والمصالح الشخصية وحروب المناصب القيادية؟

الواقع يشير إلى أن العلاقة بين الطرفين تتسم بتنافر دائم، إذ ترى الدولة في أساتذة الجامعات مجموعة من المتمركزين حول أعمالهم الخاصة خارج أسوار الجامعات: الدروس الخصوصية، الكتب، والانتدابات. رغم أن هذا الأمر يصعب تعميمه وقد يكون مرتبطًا بتخصصات بعينها، إلا أن الغالبية لا يتوفر لهم أي دخل آخر سوى رواتبهم الحكومية. وضميرهم المهني يمنعهم من التجارة بالكتب أو الدروس الخصوصية.

ويرى الأساتذة أن الدولة مقصِّرة وعاجزة عن تقديم أي دعم حقيقي للبحث العلمي أو توفير حياة كريمة لهم ولأسرهم، ورعاية صحية لائقة، ورواتب تحقق لهم الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

كل طرف يريد فرض رؤيته وانتزاع حقوقه دون تنازل أو حلول وسط. ومع غياب الحوار البنّاء والاعتراف بالخلل، تستمر المتاهة، ويظل الجميع يدور داخلها دون مخرج، خصوصًا أن معيار القيادة "الناجحة" الآن هو تلك التي توفّر في الموازنات، وتُضيّق في المصروفات، ولا تطلب زيادات، ولا ترفع شكاوى أو مطالب مجتمعية.

المفارقة المؤلمة: أننا نعقد الأفراح ونتلقى التهاني بعد حصول أي جامعة على مركز متأخر في التصنيفات الدولية "الزائفة"، لننشر روح الفخر الكاذب والتقدّم الوهمي، في حين أن الحقيقة لا تمتّ للواقع بصلة. الحقيقة أن القوانين تُخترع كل عام لتقييد أي محاولة للإصلاح أو الإبداع، والميزانيات تُقيد، والتضخم يلتهم الرواتب.

لا أحد يتحدث عن البحث العلمي كأولوية..!
والاهتمام برواتب أساتذة الجامعات ومدرسي المدارس منعدم، بينما نرصد المليارات لاستقدام لاعبي كرة قدم ولمسلسلات وأفلام، لكنها لا تُسمن وطنًا ولا تبني حضارة.

الدول التي تقدّمت أدركت أن العالم، والأستاذ الجامعي، والمدرّس، هم الأهم.
وأن أصغر باحث، وأصغر دكتور، وأصغر معلّم، هو من يستحق الاهتمام به كأولوية لدولة ترغب في النهوض والتقدّم. بينما في واقعنا المحلي، تتضخم "الأنا"، وتطغى الفردية على كل قرار، وتُغيب المصلحة العامة في مقابل المنفعة الشخصية. وكل قيادي يفصّل القرارات بشكل منعزل، ليرى أن رأيه وفكره هو الصواب، ولا أهمية للرأي الجمعي.

إن لم يتم تصحيح هذا المسار، سنظل نرى أجيالًا من أعضاء هيئة التدريس والتربية والتعليم تعاني كما عانى من سبقهم، وطلابًا يشتكون من تعليم لا يرقى، وسوق عمل يرفض مخرجات التعليم، خصوصًا بعد التوسّع الغريب في عدد الجامعات الخاصة والأهلية.

مسؤولون يكررون ذات الخطاب، وإعلانات من نوع:
"تحت رعاية فلان"،
"في عهد فلان"،
"بريادة فلان"،
"تحت إشراف فلان"
ونشاهد صاحب المجهود في ذيل الإعلان، بخط صغير لا أهمية له.

وإنجاز كاذب لتصنيفات دولية، بينما يتبخر الوطن من بين أيدينا، ويتدهور الاقتصاد، وتزداد البطالة.

نحن أمام لحظة مفصلية:
إمّا أن ندرك أن العقول هي الثروة الحقيقية ونبني لها بيئة آمنة ومحفزة،
أو نواصل نزيف الكفاءات ونستمر مجرد سوق استهلاكي يعاني من أزمة عمل خانقة،
يشتري ما يُنتجه الآخرون، ويتفاخر بما لا يصنعه.

إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق