استراتيجية الغرب في مواجهة القوى الصاعدة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في قلب الصراعات الجيوسياسية المعاصرة، يتمترس الغرب خلف استراتيجية لا تعرف الهدوء ولا الالتزام بالقوانين المتعارف عليها أمميا. فتلك القوانين وُضعت لخداع الضعفاء بهدف إخضاعهم. ما يختبره الغرب في إيران ليس مجرد تصعيد سياسي أو مواجهة عسكرية، بل هو اختبار لأسلوب طويل الأمد من الهيمنة عبر التسلل من الداخل، وزعزعة استقرار الدول المستهدفة باستخدام الأدوات غير التقليدية من الحروب الهجينة. ما يسعى إليه الغرب هو رسم خريطة جديدة للنفوذ العالمي، خريطة لا تقوم على الانتصار في معركة نزيهة، بل على الاستنزاف البطيء للأمم حتى تنفجر من الداخل.

استناداً إلى كتابات عميقة لعدد من المفكرين البارزين، مثل المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي والمفكر الروسي ألكسندر دوغين، سأحاول تسليط الضوء على بعض المفاهيم المستحدثة، في محاولة لفهم ما يجري من صراعات ومؤامرات غاية في التعقيد، ضحاياها الشعوب المقهورة في العالم النامي.

الغرب، استراتيجية الهيمنة عبر التسلل: الغرب اليوم يعلم تماماً أنه لا يستطيع الانتصار في معركة نزيهة مع القوى الصاعدة التي تزداد قوتها يوماً بعد يوم. لذلك لا يقاتل الغرب بالطرق التقليدية، بل يتسلل من الداخل، يضرب من الظل، ويستخدم الوكلاء ليضعف الدول ويستنزف قوتها حتى تنهار سيادتها. فالحرب الروسية الأوكرانية بدأت بالاستفزاز واستحالت إلى استنزاف، والعقوبات على إيران وفنزويلا باتت حالة مستدامة لإنهاك النظامين داخليا، وحالة اللاحرب واللاسلم بين الهند وباكستان كادت تتحول إلى كارثة عالمية لولا الدهاء الباكستاني في رد الصاع الهندي صاعين… هذه الاستراتيجية جزء من نظام الإمبراطورية الغربية، الذي يقوم على إضعاف الخصوم عبر الاستنزاف الممنهج المفضي إلى الانهيار الذاتي التدريجي في أفق التبعية المطلقة بدلاً مما كانت تعرفه العصور السالفة من خلال الغزو المباشر. الاغتيال يحل محل المواجهة المباشرة، والأزمات المفتعلة تُسهم في إحداث انقسامات داخلية تؤدي إلى تدمير الدولة من الداخل، والأدهى من ذلك أن الترويج لمفاوضات ديبلوماسية، بقيادة القوى العظمى أو بغطاء أممي، لا يعدو أن يكون مناورة لربح الوقت أو للقيام بأنشطة تجسسية ومؤامرات تخريبية.

ومصطلح “الأزمة” في هذا السياق ليس سوى قناع يخفي المنظومة الكاملة التي يسعى الغرب من خلالها إلى تدمير الكيانات الصاعدة. ويظهر هذا بوضوح في تصعيداته المستمرة ضد دول مثل إيران وروسيا، حيث ينظر الغرب إلى هذه الصراعات على أنها مجرد خطوات ضمن مخطط أكبر. ليس الأمر مجرد تصعيد على شكل أزمات، بل هو محاولة حثيثة لإضعاف أي قوة قد تشكل تهديداً للهيمنة الغربية.

إيران، التمهيد لما هو أكبر: إيران تمثل فصلاً تمهيدياً في هذا السياق، اختباراً للقدرة على مواجهة استراتيجية الغرب غير التقليدية. إذا سقطت إيران فإن التحديات ستتدفق إلى باقي الدول التي قد تُعتبر تهديدات مستقبلية. أما إذا صمدت إيران، فسيكون ذلك بمثابة كسر للهيبة الغربية التي طالما شعر أصحابها بأنهم بمنأى عن أي تهديد حقيقي. هناك خوف حقيقي في الغرب اليوم من أن هذا الصمود الإيراني قد يكون بداية لتحول عالمي في موازين القوى.

الجنوب، تكرار الأخطاء في وجه المنظومة الاستعمارية: دول الجنوب، على الرغم من الدروس المتكررة، ما زالت تكرر الخطأ نفسه. فهي تنظر إلى ما يحدث على أنه أزمة يمكن السيطرة عليها، بدلاً من أن ترى المنظومة الغربية كنسق يعمل حثيثا بغرض تدمير هذه الدول. ما يواجهه الجنوب اليوم ليس صراعاً عادلاً، بل هو ببساطة معركة بين مفترس وفريسة، حيث يبدو التفاوض أو الحوار جزءا من المعركة الكبرى، حيث إن الغرب هو الذي يتحكم بالمسار، في حين أن دول الجنوب تظل رهينة له.

النهوض يعتبر جريمة: الدول مثل الصين، روسيا، تركيا، فنزويلا، باكستان…، تشهد نهضة قوية، وعلى وشك أن تصبح الأهداف الاستراتيجية التالية في هذه الحرب الهجينة. نهوضها لا يُعتبر مجرد تقدم اقتصادي أو سياسي، بل جريمة في نظر الغرب. الغرب يرى في تصاعد قوى جديدة تهديداً لهيمنته. لهذا السبب يتم العمل على تحطيم هذه القوى عبر أدوات اقتصادية، ثقافية، سياسية، وعسكرية، على جبهات متعددة في وقت واحد. هذا لا يعني أن هذه الدول ضعيفة، بل يعني أن العالم الجديد الذي ينهض يتطلب تقويضه قبل أن يتمكن من التأثير في مجريات الأمور العالمية.

الحرب الهجينة، مستقبل الحروب: إذا كان الغرب يشن حرباً هجينة، فإن الرد يجب أن يكون هجينا أيضًا. الرد في هذه الحرب لا يمكن أن يكون محصوراً في جبهة واحدة. يجب أن يكون الرد سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً وعسكرياً، عبر جميع الجبهات. يجب أن تترابط الجهود لتشكيل جبهة مقاومة شاملة تعكس القوة الحقيقية للجنوب. فالعالم لا يمكن أن يتوازن عبر التصريحات والمؤتمرات فقط، ولا التماهي مع خططهم، التي طالما تتخذ طابعا أمميا تمويهيا، بل عبر القدرة على فرض التوازن بالقوة، وتحقيق معادلة حقيقية في مواجهة الغطرسة الغربية.

البريكس، محور التصحيح والمقاومة العالمية: اليوم، يجب أن يتحول تجمع البريكس من مجرد منتدى لتبادل التصريحات إلى محور حقيقي لإصلاح النظام العالمي. يجب أن يصبح البريكس درعاً واقياً للجنوب، وقوة تصحيحية للموازين العالمية.

يجب أن يكون البريكس هو القوة التي تدافع عن دول الجنوب، عبر استخدام الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية لتجنب الاستنزاف الممنهج، على النحو الذي يمكن من التأسيس لمستقبل جديد يعكس توازن القوى بدلاً من الهيمنة الغربية المستمرة. هذا هو المستقبل الذي يجب أن نطمح إليه.

ما نراه اليوم ليس مجرد صراع بين دول مختلفة، بل هو صراع على الهيمنة العالمية، حيث يسعى الغرب إلى الاحتفاظ بموارد العالم واستمرارية سيطرته عبر أنماط غير تقليدية من الحروب. ولكن إذا صمدت القوى الصاعدة مثل إيران، روسيا، الصين، باكستان، فإن معادلة الهيمنة قد تتغير. الحرب التي يخوضها الغرب هي حرب من أجل السلام الذي لا يمكن أن يكون حقيقياً طالما أن الإمبراطورية الغربية تشعر بأنها في أمان. الرد الوحيد الممكن هو أن يعي العالم أن السلام لا يمكن استجداؤه من الذين يعتاشون على الحرب، وأن التحرر من الهيمنة الاستعمارية يتطلب القوة والتضامن العالمي.

خلاصة القول: الحرب الإسرائيلية على إيران (التي ستكون موضوع مقال آخر بحول الله) يندرج في سياق الدور الوظيفي لإسرائيل في سياق المخطط الغربي الكبير للهيمنة العالمية، فإذا سقطت إيران قد تكون بداية الحرب الكبرى؛ وإذا صمدت سيكون ذلك انتصاراً للجنوب الذي طالما خضع لسيطرة الغرب.

باحث في العلوم السياسية والاقتصادية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق