تشهد مدينة لاهاي الهولندية حالة غير مسبوقة من التوتر الأمني والسياسي، وذلك على خلفية الاستعدادات الجارية لاستضافة قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" يومي 24 و25 يونيو الجاري، في أول مرة تُعقد فيها هذه القمة على الأراضي الهولندية منذ تأسيس الحلف عام 1949.
الحدث الاستثنائي لا يتوقف عند رمزية المكان، بل يتجاوزها إلى ظرف دولي محتقن، وشخصيات مثيرة للجدل على رأسها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
حالة طوارئ أمنية غير مسبوقة.. "الدرع البرتقالي"
تحوّلت لاهاي، التي لطالما اعتُبرت عاصمة العدالة العالمية، إلى قلعة عسكرية محصنة وسط إجراءات أمنية مشددة، هي الأكبر في تاريخ البلاد. أطلقت السلطات الهولندية خطة أمنية ضخمة تحت اسم "الدرع البرتقالي"، شملت نشر حوالي 27 ألف شرطي، أي ما يعادل نصف القوة النظامية للشرطة في البلاد، إلى جانب 10 آلاف عنصر من القوات المسلحة. كما حلّقت في سماء المدينة مقاتلات من طراز F-35 ومروحيات أباتشي، وتم نشر أنظمة دفاع جوي ووحدات متخصصة لتفكيك المتفجرات.
إغلاق المرافق، وتحويل مسارات النقل العام، ومنع تحليق الطائرات المسيّرة، وتقييد حركة السير، كلها تدابير تعكس حجم القلق من تهديدات محتملة. اللافت أن هذه الإجراءات طالت المدينة من مركزها إلى ضواحيها، كما انتقلت مواكب القادة عبر طرق مغلقة تحت حماية مشددة من الشرطة العسكرية، في حين وُضعت الحواجز والأسوار المعدنية في محيط موقع القمة.
شبح ترمب يخيّم على القمة: ضغط زمني وخشية من الانسحاب
رغم أن القمة تحمل ملفات مصيرية تتعلق بالأمن الأوروبي والحرب في أوكرانيا، إلا أن الحضور الأميركي المتمثل في الرئيس دونالد ترمب فرض حسابات مختلفة على منظمي الحدث. فبحسب صحيفة "فاينانشيال تايمز"، تم اختصار زمن القمة إلى ساعتين ونصف فقط، واختُزلت من ثلاثة أيام إلى جلسة عمل واحدة، في محاولة لتجنب انسحاب ترمب المبكر، كما فعل سابقاً في قمة مجموعة السبع بكندا.
الهدف، بحسب مصادر دبلوماسية، هو تقديم "قمة صغيرة ومركّزة"، تحاول اجتذاب انتباه ترمب وتفادي مزاجيته السياسية، خاصة بعد تصريحاته المقلقة حول احتمالية تخلي واشنطن عن حماية الحلفاء الذين لا يلتزمون بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من ناتجهم المحلي.
أجندة ثقيلة وسط هشاشة سياسية
القمة تنعقد في ظل تصاعد الصراع في أوكرانيا، وتجدد التهديدات في الشرق الأوسط، إلى جانب المنافسة الاستراتيجية مع الصين. كل هذه المحاور تمثل عبئاً إضافياً على طاولة مشحونة سلفاً بالهواجس، خصوصاً مع وجود خلافات داخلية بين الدول الأعضاء بشأن الإنفاق الدفاعي.
أمين عام الحلف، مارك روته، الذي كان حتى وقت قريب رئيس وزراء هولندا، يسعى لإقرار هدف جديد يتمثل في إنفاق 3.5% من الناتج المحلي على الدفاع بحلول 2030، مع تخصيص 1.5% للاستثمار في البنية التحتية الأمنية والرقمية، مثل الطرق، والجسور، والأمن السيبراني. لكن دولاً مثل إسبانيا لا تزال تُبدي تحفظها، ما قد يعيد مشهد الانقسام الذي يخشى الحلف ظهوره إلى العلن.
الأمن السيبراني والتهديدات الروسية
القمة تأتي أيضاً في وقت تتعرض فيه شبكات الشرطة الهولندية ومؤسسات الناتو لهجمات سيبرانية، تُتهم فيها مجموعات روسية غير معروفة. هذه التطورات دفعت إلى تعزيز الأمن الإلكتروني، بما في ذلك إجراءات "غير ظاهرة" كشف عنها مسؤولون في مكافحة الإرهاب دون الإفصاح عن تفاصيلها.
في موازاة الحصار الأمني، تتأهب السلطات الهولندية للتعامل مع احتجاجات متوقعة، أبرزها محاولة ناشطين إغلاق طريق سريع رئيسي. وقد دُعيت وحدات مكافحة الشغب للانتشار في المدينة تحسباً لأي طارئ.
الشق السياسي والدبلوماسي: لقاءات موازية ومآدب ملكية
يُعقد بالتوازي مع القمة منتدى الناتو العام، حيث يُناقش نحو 500 سياسي وخبير وشاب مستقبل الأمن عبر الأطلسي. كما يُعقد منتدى الصناعات الدفاعية في 24 يونيو بمشاركة قادة حكومات وصناعات دفاعية كبرى لمناقشة فرص تعزيز التعاون العسكري.
في الأثناء، يستضيف الملك فيليم ألكسندر ضيوف القمة في مأدبة رسمية بقصره مساء الثلاثاء، في مشهد بروتوكولي مهيب يسبق الاجتماعات الرسمية.
موقع انعقاد القمة يقع بالقرب من مبنى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، ومقر منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ومحكمة العدل الدولية، وهي كلها مؤسسات تجسد معاني العدالة العالمية. ومع ذلك، يُعقد الحدث وسط أكبر استعراض أمني وعسكري في تاريخ هولندا، وهو ما يثير مفارقة ملفتة بين ما تمثله لاهاي من قيم العدالة، وما تفرضه الوقائع من دروع وخوف.
0 تعليق