في تقرير افتتاحي مطول، رسمت مجلة “تايم” البريطانية ملامح شرق أوسط جديد يتشكّل بسرعة على أنقاض التحالفات التقليدية وصدى المعارك المتجددة، مؤكدة أن ما نشهده اليوم هو لحظة تحوّل جذري في موازين القوى الإقليمية، تتراجع فيها شعارات الصراع الوجودي ضد إسرائيل، لتحل محلها شراكات استراتيجية تحكمها لغة المصالح والتكتيك السياسي.
وبينما تتصاعد أعمدة الدخان من سماء طهران، وتغلي جبهات القتال في غزة، تشير المجلة إلى أن إيران — التي قضت العقدين الماضيين في تعزيز نفوذها في المنطقة — تبدو اليوم وقد بدأت تفقد زمام المبادرة على أكثر من صعيد.
إيران.. من التمدد إلى الانكماش
ويرصد تقرير “تايم”، كيف أن الجمهورية الإسلامية في إيران كانت قد وضعت يدها على مساحات نفوذ شاسعة؛ ففي العراق، كان سقوط نظام صدام حسين عام 2003 بمثابة هدية غير مباشرة من الولايات المتحدة لطهران، حيث تحوّل هذا الجار المقلق إلى حليف تابع، فيما مكّنت ميليشياتها الموالية من تثبيت نفوذها لاحقًا بعد دحر تنظيم داعش.
وفي سوريا، قدمت إيران دعمًا عسكريًا مباشرًا لنظام بشار الأسد، وفي الوقت ذاته أنشأت ممرًا عسكريًا إلى "حزب الله" في لبنان، ليصبح الحزب الذراع الأهم في ما تسميه طهران "محور المقاومة" ضد إسرائيل، والذي تضمن أيضًا حركة "حماس" في غزة، والمتمردين الحوثيين في اليمن، ووكلاء سياسيين وعسكريين في العراق.
وبحسب المجلة، لطالما ارتكزت استراتيجية طهران على مناهضة إسرائيل، بوصفها "العدو الأول" ومصدر التهديد الأساسي، وهي رؤية مستمدة من عقيدة الثورة الإسلامية عام 1979، التي اعتبرت إزالة "الدولة اليهودية" من الأراضي الإسلامية واجبًا عقائديًا.
هجوم 7 أكتوبر.. واختبار محور المقاومة
تقول المجلة إن الهجوم المفاجئ الذي شنّته حماس في 7 أكتوبر 2023، عبر اجتياح واسع لمستوطنات إسرائيلية قرب غزة، كشف هشاشة "محور المقاومة"، حيث توقعت الحركة الفلسطينية أن تلقى دعمًا فوريًا من حلفائها في لبنان واليمن وسوريا، إلا أن ذلك لم يتحقق.
فقد اكتفت ميليشيا حزب الله بإطلاق بعض الصواريخ بشكل يومي، في حين بقيت طهران تراقب المشهد دون الدخول في مواجهة مباشرة، مدركة حجم التفوق الإسرائيلي المدعوم أميركيًا، والأهم مدركة التهديد الوجودي الذي قد يطال نظامها في حال نشوب حرب شاملة.
غزة تشتعل.. وإيران تحت الضرب
رغم ما يبدو من تخبط في إدارة الحرب في غزة، تؤكد تايم أن المعركة الأكبر التي أعدّت لها إسرائيل منذ سنوات هي تلك الموجهة ضد إيران، ففي سبتمبر الماضي، نفذت إسرائيل سلسلة من الضربات الجوية الدقيقة استهدفت مواقع صاروخية لحزب الله، مما قلّص تهديد 100 ألف صاروخ موجه نحوها.
وفي 13 يونيو، دشّنت إسرائيل عملية عسكرية مباشرة ضد طهران، انطلقت بطائرة نقل عسكرية شوهدت تحلق فوق سوريا، تزامنًا مع إجلاء الحرس الثوري كبار قادته من دمشق إلى طهران، بعد تخلّي نظام الأسد عن العاصمة أمام ضغط الثوار في غياب دعم ميليشيا "حزب الله".
وتنقل المجلة أن صُنّاع القرار في طهران يعيشون اليوم سؤالًا وجوديًا: هل تسعى إسرائيل لإسقاط النظام؟ وهل ستكون الولايات المتحدة شريكًا في توجيه ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية؟ وهو سيناريو تعتبره المجلة محفوفا بالمخاطر، ويعيد إلى الأذهان إخفاقات تغيير الأنظمة كما حدث في العراق.
ترامب يرسم حدود الشرق الأوسط الجديد
بحسب تحليل تايم، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي قاد موجة التطبيع مع إسرائيل، كان أول من تجاوز الخطاب التقليدي الداعم المطلق للقضية الفلسطينية، واختار شراكة مباشرة مع تل أبيب، ما شكّل تحولًا جذريًا في ملامح العلاقات الإقليمية.
نهاية المعادلة القديمة
تخلص المجلة إلى أن منطق "المقاومة الشاملة" الذي كانت تتبناه قوى إقليمية مثل إيران لم يعد مقنعًا حتى لحلفائها، فالتكلفة أصبحت عالية، والنتائج محدودة، وبينما تتخبط القضية الفلسطينية في دوامة دماء جديدة، تتحول أولويات الأنظمة من دعم "التحرير" إلى ضمان "الاستقرار"، وإن كان ذلك على حساب سرديات تاريخية.
وتنتهي تايم إلى أن الشرق الأوسط لا يخرج فقط من معطف طهران، بل يبتعد أيضًا عن إرث "النكبة" و"التحرير" ليخوض مرحلة جديدة، تُمليها قواعد الاقتصاد، والتكنولوجيا، والتحالفات اللحظية، حيث لا مكان للمثاليات القديمة في ميدان الصفقات الإقليمية.
0 تعليق