صلاح سلام يكتب: مانجؤنة

الوفد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كنتُ شغوفًا برائحة تلك الكعكة اللذيذة وهي تخرج مرصوصة في الصاج الأسود من فرن “الشريف” الذي يقع على الجانب الآخر من شارع ٢٣ يوليو، أمام منزلنا، الذي لا يبعد سوى خطوات عن الشارع الوحيد تقريبًا في مدينة العريش قبيل حرب يونيو ١٩٦٧، كنت أشم رائحتها من بعيد، ولكن أين لي بقرش صاغ لشراء واحدة منها، إلا في المناسبات الرسمية؟ أي في عيد الفطر فقط، لأن عيد الأضحى هو “عيد اللحمة”، فلا توجد عيدية!

ولكن من حسن حظي أن يأتي أصدقاء أخي إبراهيم إلى منزلنا، وهو أكبر إخوتي من أمي، حيث تطوّع في القوات المسلحة بعد حصوله على الثانوية العامة، عقب وفاة والدي، ولم يستطع إكمال أي دراسة، فأصبح ربّ أسرة مكوّنة من خمسة أشخاص، كلهم في مراحل التعليم، بالإضافة إلى والدتي.

وإن كانت شهادته قد أسهمت في ترقيته بسرعة، لكنها كانت “من تحت السلاح”. وكان أصدقاؤه من الضباط والعاملين المدنيين بسلاح الإشارة، ومنهم الأستاذ محمد صبحي، والأستاذ سعيد مبروك، يجتمعون في نهاية الأسبوع في بيتنا، بالمندرة.

وذات مساء، ناداني أخي لأسلّم على ضيوفه وأحيّيهم، وطلب منهم أن يوجهوا لي أي سؤال عن عواصم الدول وموانئها، سواء كانت عربية أو أجنبية، وقد أنهيت الصف الثاني الابتدائي وقتها، بدأ الضابط سيد، ثم الأستاذ سعيد، وآخرون يسألون، وأنا أجيب.

والحقيقة أنني أتذكر جيدًا اسم سيد وسعيد مبروك، لأنهما اختبآ في بيتنا أثناء الحرب، في إحدى الغرف البحرية، حتى وقف إطلاق النار، واستبدلا ملابسهما بملابس مدنية، وتم تدبير بطاقات مدنية لهما، وخرجا مع دليل ليلتحقا بمجموعات سلكت طريقها نحو غرب القناة، عبر الدروب الوعرة، بعيدًا عن أعين جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي سيطر على قطاع غزة وسيناء في ستة أيام، بعد أن دمّر الطيران المصري على الأرض في كل مطارات المواجهة، كما علمنا من إذاعة لندن، التي كانت مصدر ثقة، بعد توقف البيانات المفبركة التي كانت تتحدث عن نصر زائف، مما أحزن كل بيت في أرض مصر المحروسة.

وكانت دائرة أصدقاء أخي تتسع، فكان يحضر إلى بيتنا في نهاية الأسبوع عدد غير قليل منهم، وكلهم يحملون وطنهم في قلوبهم، وغربتهم على أكتافهم، ويتسامرون لعل سهرتهم تسري عن نفوسهم الطامحة إلى مستقبل أفضل، وتروّح عن قلوبهم العامرة بالحب والإخاء، فقد كنت أرى وجوههم الباسمة، وأسمع ضحكاتهم، فينشرح صدري، وكأني كبرت وأصبحت مثلهم.

ومرة أخرى، حاول أحدهم أن يسألني وأنا أحضّر برّاد الشاي عن عاصمة كوبا، فلم أُجِب. فوجه أخي لي اللوم، فأجبته بخبث الأطفال: “أنا أعرف الإجابة، ولكن ليس مجانًا، بل أعرف رئيسها أيضًا!”، فضحك الجميع، ثم تطوّع أحدهم وأخرج تعريفة، فأجبته، فضحكوا مرة أخرى، وبدأوا في طرح الأسئلة، وأنا أجيب، ثم توقفت مرة أخرى لأحصل على تعريفة أخرى (نصف قرش)… وهكذا، أصبح معي قرش كامل، وأستطيع أن أشتري “مانجؤنة”، ومنّيت نفسي بها غدًا.

ولكني، قبل أن أخلد إلى النوم، راودت نفسي في أمر هام كنت قد تحدثت فيه من قبل مع الست “وهيبة” – “ياسمين” – أمي، فقد طلبت منها عندما بدأت الإجازة الصيفية أن تقرضني مبلغًا لأشتري لبًّا وكيلو ترمس جاف، وتقوم هي بتسوية اللب وإنضاج الترمس، وأقوم أنا ببيعه، حتى أوفّر مصاريف المدرسة وثمن الكتب المدرسية، وقد كانت خمسة عشر قرشًا وقتها.

وذلك حتى أتجنب ما حدث لي في بداية العام الدراسي، حيث عنّفني الأستاذ “العبد أبو السعيد” – رحمه الله – عدة مرات لأنني لم أدفع المصاريف، وضربني بالعصا، لولا أن أنقذتني الأبلة “بهية” – أمد الله في عمرها إن كانت على قيد الحياة، ورحمها الله إن كانت قد رحلت – فقد احتضنتني وأنا أبكي، وقالت له: “ده أشطر واحد في الفصل”، وأخذتني من الطابور إلى مقعدي في الفصل، في يوم لا أنساه، حيث قررت بعدها عدم العودة إلى المدرسة مهما كان الثمن.

وقد دبّرت أمي المبلغ في اليوم التالي، وأرسلته معي في منديل ربطته على يدي حتى لا تضيع الوديعة، لذلك، قررت أن أعمل لأوفر هذا المبلغ بنفسي، لكي لا ألقى نفس المصير، لكنها رفضت.

صحوت في اليوم التالي، وذهبت إلى عم مصطفى الزرباوي، واشتريت بقرش لبًّا، وعدت لأضعه في ثلاث قراطيس من الورق، وبعتهم بقرش ونصف. ثم أعدت الكرّة مرة أخرى، واشتريت بهم، ووضعتهم في أربعة قراطيس، وبعتهم بقرشين.

وانطلقت مسرعًا إلى فرن “الشريف” وقت خروج المانجؤنة الساخنة، برائحتها الذكية، لأنال جائزتي الكبرى، منتشيًا بما حققته من ربح وفر لي رأس مال لم ينقص، وفوز بمحبوبتي التي تنعش أحاسيسي.

كنت أمشي “ملكًا” وأنا أحتضنها بكلتا يدي، بالإبهام والسبابة، حيث يناولها لي العم سامي الشريف، ابن صاحب فرن “الشريف”، الذي كان يسكن خلفه ويمتلك بعض المحلات عن يمين ويسار الفرن. يناولني إياها مغلّفة بورقة صغيرة، لأعزف عليها بفمي أنشودة الحياة.

فاستجابت أمي لمشروعي، وقد استطعت أن أكون تاجرًا صغيرًا، مثل أبي – رحمه الله – وأخي الكبير من أبي، “حسين”، الذي ورث تجارته… المهم أن يتحقق الهدف، لأذهب فور بدء الدراسة بحلّتي الجديدة، حاملًا المصاريف الدراسية، رافعًا رأسي، فلا خوف… ولا خجل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق