سياسات الحماية الاجتماعية رغم التحديات!

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم أكن أفهم واقعيًا ماذا يعني أن تبلور الحكومات سياسات الحماية الاجتماعية حتى تؤدي دورها في تطبيق العدالة وبناء مجتمع مترابط وتقوية أوتاده بفضل دعم الطبقة الوسطى والفقيرة ومنحها التمكين لتعزيز دورها المحوري في التنمية. كان ذلك عندما زرت البرازيل في مطلع الألفية الثانية حيث شاهدت النموذج البرازيلي وكيف استطاعت هذه الدولة خلال أقل من عقدين أن توفر الحماية والرعاية والتنمية لفئات كانت تعدُّ منسية تماما خلال عقود سابقة.

اهتم الرئيس لولا دي سيلفا بحماية الطبقات الفقيرة وذوي الإعاقة وكبار السن من خلال دعم مالي شهري، ناهيك عن أطفال الشوارع الذين كانوا منتشرين بالآلاف في شوارع البرازيل وحوّل هذا التحدي إلى نجاح عندما ألحقهم بدور رعاية ووفر لهم التعليم بما في ذلك التدريب المهني كما ألحق الموهوبين في الرياضات، خاصةً كرة القدم، بنوادي ومراكز شبابية ليصبح العديد منهم نجومًا بعد ذلك. 

كان العالم يختنق بالأزمات والحروب، خاصةً تلك التي عصفت بعدد من دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا بما في ذلك الحرب ضد أفغانستان والعراق. وتلك تحديات واجهت البرازيل في محاولتها لصنع نهضتها. وأثرت تلك العوامل الداخلية والخارجية على ارتفاع أسعار السلع وتدهور القدرة الشرائية لدى المواطنين، فيما تآكلت الطبقات الوسطى والفقيرة وتدحرجت إلى أسفل سافلين في البرازيل كما هو الحال في العديد من المجتمعات، حتى المتقدمة منها. وظهر نموذج البرازيل في التنمية والذي واجه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية ليقف صامدًا عتيًا في النهاية.

وبالمناسبة، كانت البرازيل قد بدأت مسيرة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالتزامن مع مصر لولا أن بلدنا واجه حرب الخليج والعديد من الأزمات الصعبة المترتبة على ذلك والتي عطلت مسيرته. وإذ استدعيت تلك الذكريات عن البرازيل وكفاحها فحتى يمكن الاسترشاد بهذه التجربة؛ فعند متابعة حزمة السياسة الاجتماعية التي بدأت بعد 2014 مع حكومة شريف إسماعيل رحمه الله -وكان لي شرف المشاركة ضمن مجموعة عمل الوزيرة غادة والي خلال إطلاق العديد من مشروعات المجسّدة لحزمة الحماية الاجتماعية ومنها تكافل وكرامة وسكن كريم والألف يوم في عمر الطفل وغيرها الكثير- واستمرت تلك السياسات على نفس النهج مع حكومة الدكتور مصطفى مدبولي مع التوسع في الحماية والتنمية من جوانبها الصحية والاقتصادية، وإن كانت الظروف المحيطة والأزمات أكثر شدة. 

وما أردت قوله إن هذه السياسات التي تهم الفئات العريضة من المواطنين ليست أمرًا سهلًا، من جهة توفير التمويلات الكافية لتطبيقها وكذلك من جهة إيمان المجتمع بها أيضًا. لذلك، عندما أستعيد الملاحظات التي كنت أستمع إليها وأدونها خلال جولتي في البرازيل والنقد الموجه لها أشعر بأن التحديات التي تواجه مصر في تنفيذها لهذه السياسات هي طبيعية مقارنةً بما يواجهها غيرها. وقد واجهت مثلها البرازيل ونجحت في النهاية في التغلب على الكثير من تلك التحديات. والنجاحات التي حققتها مصر رغم التحديات التي تواجهها هي بدورها دافع مهم لصانعي السياسات في مصر حتى يستمروا في طريقهم ويحققوا الأهداف المرجوة. وكنت قد قرأت عن تلك السياسات مطوّلًا من قبل في التجربة الناصرية لكنَّ الجدلَ حولها وملف سلب الحريات من بعض الفئات هزمها. ومن المهم الوعي بكافة العناصر التي تساهم في نجاح التجربة حتى تزيد من أسهمها وتعلي مردودها.

وعندما نتأمل التجربة المصرية نستلهم منها الكثير مثلما استلهمت البرازيل بدورها من تجارب الدول الأخرى التي سبقتها وصاغت نموذجها التنموي الذي يناسبها ويوفر حلولًا لنوعية مشكلاتها. لم يكن الطريق مفروشا بالورود أمام الرئيس لولا دي سيلفا آنذاك بل واجه انتقادات من المعارضين السياسيين له كما واجه موقفا مماثلا من رجال المال والأعمال لكنهم ما لبثوا أن تفاعلوا مع مشروعاته وحفزهم أيضًا دعمه في مرحلة تالية للصناعة والاستثمارات وتعزيزه التبادل التجاري مع جيرانه ونجاحه في توسيع شراكات عديدة مع أفريقيا والدول العربية التي هاجر منها ملايين المهاجرين الأكفاء واستطاع أن يستفيد منهم ومن مشروعاتهم في نهضة البرازيل الحديثة. واكتشفت خلال زيارتي للبرازيل أن هناك قرابة 10 ملايين عربي أو منحدرين من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية ومصرية وعراقية وبعضهم يحتل ‏مراكز بارزة في الدولة. وكان بعض البرازيليين يوجهون النقد للرئيس لولا لأنه قربهم ودعمهم وجعلهم يشاركون في المشروعات المهمة وقد ذكرهم الرئيس لولا بكل فخر وأثنى عليهم في عدة خطب وتصريحات.

مصر أيضًا واجهت الكثير من المشكلات التي تزامنت مع تنفيذ مشروعات هائلة لصالح الفئات الفقيرة والمهمشة وكبار السن وذوي الهمم والعاطلين عن العمل؛ يكفي أن نذكر أنه خلال عقد ونصف اندلعت عدة حروب أشعلت المنطقة وأثرت علينا، وكنا ملاذًا آمنًا لكافة شعوب دول الجوار بدءًا من ليبيا ومرورًا بالسودان، ناهيك عن الأشقاء من سوريا واليمن وغزة. تلك الحروب التي مازالت مشتعلة في بعض أجزاء من المنطقة العربية أنهكت الاقتصاد المصري وأثرت على عائدات القناة وعطلت قدوم بعض الاستثمارات الخارجية. مع ذلك، مازالت مصر مستمرة على نفس الوتيرة في سياسات الحماية والرعاية والتنمية لخدمة محدودي الدخل. لابد أن نتذكر في هذا السياق أن علاج مرضى فيروس سي وعددهم تجاوز 12 مليون نسمة كان بمثابة الحلم قبل أن ينفذ المشروع الرئاسي للعلاج المجاني للمرضى. كما أن إنشاء الصرف الصحي في مصر الذي تأخر عقودًا طويلة كان بمثابة الحلم أيضًا والذي تحقق أخيرا. وأذكر أيضا في هذا السياق تبطين وتغطية الترع في كافة محافظات مصر للحفاظ على جودة ونظافة المياه.

كلها أحلام تحققت وهناك المزيد والمزيد لامحالة سيتحقق طالما هناك رؤية وأهداف تصب في صالح المواطنين.. رغم التحديات التي يشير التاريخ وتجارب الدول إلى أنها لا تختفي ولكن يمكن تحويلها إلى عناصر نجاح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق