تشهد كندا لحظة فاصلة في تاريخها السياسي والاقتصادي بعد نتائج الانتخابات العامة التي أسفرت عن احتفاظ الحزب الليبرالي بقيادة مارك كارني بالسلطة، دون أن يحقق أغلبية برلمانية تُمكنه من الحكم منفردًا، وهذا الانتصار "غير المكتمل" يأتي في سياق داخلي متقلب، وسياق خارجي أشد توترا تقوده تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بإجراءات اقتصادية عدوانية تمس جوهر السيادة الاقتصادية الكندية.
1. السياق السياسي:
أُجريت الانتخابات في ظل مشهد سياسي معقد، بعد أن فاجأ رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو الأوساط السياسية باستقالته، ما أوجد فراغاً قياديا في حزب الليبراليين بدا أنه يصعب ملؤه، غير أن صعود مارك كارني، الخبير المالي المعروف عالميًا، شكّل دفعة مفاجئة، خصوصًا أنه استطاع تحويل تأخر الحزب بـ20 نقطة في استطلاعات الرأي إلى تقدم ميداني، بفضل حملته التي ركزت على "الكفاءة الاقتصادية" في مواجهة "الابتزاز الأمريكي".
ورغم هذا الزخم، لم يتمكن الحزب من انتزاع الأغلبية البرلمانية (172 مقعدًا من أصل 343)، إذ توقفت حصيلته عند 156 مقعدًا، ما يضع كارني أمام تحدي تشكيل حكومة أقلية، ويضطره إلى البحث عن تحالفات غير مضمونة الاستمرارية، حيث إن التاريخ السياسي الكندي يُظهر أن حكومات الأقلية لا تعمر أكثر من عامين ونصف في المتوسط، ما يُبقي البلاد عرضة لاحتمالات عدم الاستقرار السياسي.
2. التهديدات الأمريكية:
برز دونالد ترمب كفاعل غير رسمي لكنه محوري في الانتخابات الكندية، عبر رسائل مباشرة وغير مسبوقة للناخبين الكنديين، بلغ فيها الخطاب حد التلميح بضم كندا لتصبح "الولاية الأميركية الـ51"، وجاءت تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة على السيارات الكندية، في محاولة للتأثير على النتائج عبر ابتزاز اقتصادي مكشوف.
يعد هذا التدخل العلني تطورا غير مألوف في العلاقات بين البلدين الجارين، ويعيد للأذهان توترات سابقة في حقبة "نافتا"، غير أن فداحة الخطاب هذه المرة تجاوزت مجرد فرض رسوم، إلى التشكيك في الحدود السياسية بين البلدين، وهو ما أثار موجة من الغضب القومي الكندي، دفعت باتجاه تعزيز الالتفاف حول كارني، الذي صوّر نفسه كحصن دفاع اقتصادي ضد "الهيمنة الأميركية".
3. كارني بين الخبرة والواقع السياسي:
مارك كارني، رغم كونه وافدًا جديدًا على الحياة الحزبية، إلا أنه جلب معه خبرة نادرة في إدارة الأزمات، إذ تولى سابقًا رئاسة البنك المركزي الكندي خلال أزمة 2008، ومن ثم قيادة بنك إنجلترا خلال مرحلة "بريكست".
وقد ركّز في خطابه الانتخابي على هذا الرصيد، مقدّمًا نفسه كقائد براغماتي قادر على مواجهة "ترمب الاقتصادي"، لا سيما وأن الرئيس الأميركي لوّح باستخدام "القوة الاقتصادية" للضغط على كندا.
لكنّ كارني، بخبرته الاقتصادية العميقة، يواجه تحديا سياسيا من نوع مختلف: إدارة حكومة أقلية وسط طيف سياسي متباين، وتحت ضغط توقعات عالية من ناخبين لا يمنحون عادة فرصة ثانية بسهولة، وعليه أن يُقنع الداخل الكندي بقدرة حكومته على الصمود، وأن يواجه الخارج بصلابة وواقعية، خصوصًا في ما يتعلق بتقليص الاعتماد على السوق الأمريكية.
4. الاقتصاد الكندي في عين العاصفة:
شهد الاقتصاد الكندي مؤخرًا تعافيًا هشًا، قبل أن تعاود واشنطن فرض رسوم على صادرات كندية حيوية مثل الصلب والألومنيوم، وقد وعد كارني بخطط استثمارية لتقليل الاعتماد على الاقتصاد الأميركي، إلا أن التنفيذ يتطلب توافقًا برلمانيًا وتمويلاً ضخمًا قد لا يكون متاحًا في ظل حكومة أقلية.
ويستغل ترامب هذا الضعف الهيكلي لدفع أجندته القائمة على "الابتزاز التجاري"، في محاولة للهيمنة على الاقتصاد الكندي بوسائل غير تقليدية، لذا فإن الانتخابات الكندية لا تمثل فقط حدثًا محليًا، بل تعكس معركة على السيادة الاقتصادية والكرامة السياسية في مواجهة أكبر قوة اقتصادية في العالم.
0 تعليق