جمعت ندوةٌ دوليةٌ بأكاديمية المملكة المغربية مؤرّخي فنونٍ وأكاديميين متخصصين في الفن من المغرب وإسبانيا لمناقشة موضوع “الاستشراق في منتصف القرن التاسع عشر” من خلال نموذج الرسام ماريانو فورتوني، الذي سبق أن أقام بالمغرب “واكتشف الأندلس عبره”.
نظَّم هذا الموعد في الرباط، أمس الثلاثاء، المعهد الأكاديمي للفنون وكرسي الأندلس التابعان لأكاديمية المملكة المغربية، بشراكة مع سفارة إسبانيا بالمملكة المغربية.
تفاعلٌ ثقافي
في افتتاح الموعد العلمي قال عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن “التفاعل الثقافي بين المغرب والأندلس يشكل جسرا ممتدا بين الماضي والحاضر، يستوعب عمق الإرث العريق وديناميات التجديد”، وهو “ما يتجلى في إبداعات فنانين مرموقين، استطاعوا التعبير عن هذا المشترك الثقافي بتجسيدات متعددة، مما يصل ضفتي المتوسط في حوار متواصل برؤى تشكيلية تمزج بين الفن والتعبير الثقافي”.
ومثّل القرن التاسع عشر في هذا السياق، “تاريخا حاسما” في التفاعل بين نخب الضفتين، وهو ما يفسّر موضوع الندوة الذي ليس مجرد “استرجاع لتاريخ فني متميز”، بل هو اهتمام بـ”لقطة فنية التقطت المغرب والأندلس بروح عاشقة ووعي بصري نادر”، وهي لحظة تأمل “فيما يمكن للفن” أن يكونه “عندما ينصت للتاريخ؛ فيصير ذاكرة حية نابضة بالجمال والمعنى”.
ولم يكن التأثير أحادي الجانب من المغرب في اتجاه فناني إسبانيا، بل “تسللت أشكال فنية إسبانية للمغرب، ولا سيما في مدن الشمال مثل طنجة وتطوان، مما أسهم في ترسيخ جسور ثقافية متينة بين الثقافتين”.
في هذا الخضمّ، كانت إقامة فورتوني بالمغرب “نقطة حاسمة في مسيرته الثقافية”، و”مصدرا بصريا غنيا أثّر في رؤيته الإبداعية”، حيث “بدأ استكشاف المغرب عبر كراسات الرسم، التي سجل فيها تفاصيل دقيقة عن المعمار والملابس التقليدية والحياة (…) واكتشف الأندلس في المغرب من خلال الإنسان والعمران وأسلوب الحياة. ولم يقاوم رغبة التعمق، فشد الرحال للأندلس ليواصل ما بدأه”.
فورتوني، وفق أمين سر أكاديمية المملكة، “لم يكن يرسم فقط، بل كان يقتني تحفا نادرة، هي جزء من الأعمال التشكيلية والنحتية معا”، وشكّل “تداخلا فنيا بين المغرب والأندلس، فلم يفصل بين الهويتين، بل قدمهما واحدا”، علما أن أعماله قد تميّزت “باهتمام استثنائي بالتفاصيل، والأسلوب الضوئي”، وكانت “مرجعا بارزا لتصوير المغرب من منظور أوروبي في القرن التاسع”، لكن من منظور استشراقي مختلف عن فنانين استشراقيين كبار مثل أوجين دولاكروا.
وأكّد لحجمري أن”رؤية فورتوني اليوم لا يمكن أن تفصله عن السياق التاريخي الذي أحاط بتجربته، المتزامنة مع فترة تأسيسية في العلاقات بين المغرب وإسبانيا”، كما أن عمله لا يخلو “من إسقاطات أوروبية”، و”محاولة لخلق توازن بين الواقعية في الرسم، والنزعة الرومانسية”، في ظل “افتتانه بالبنية العمرانية، والزخارف المعمارية، والملابس التقليدية”.
لكن، في لوحاته لم يعد المغرب فضاء غريبا، بل صار “مرآة لذاكرة أندلسية مشتركة. تستعاد بريشة حساسة، أكثر من أن تحتلَّ بخيال استشراقي”، وبالتالي فقد ساهم هذا الفنان “في إعادة اكتشاف الآخر المغربي الأندلسي”، دون تصوّره “نقيضا”، كما أن “الأندلس” معه “لم تعد مجرد ذكرى تستعيدها المخيلة البصرية، بل صارت مصدرا حيا للإبداع التشكيلي”، مع إسهام رحلاته إلى المغرب في “إغناء رؤيته”، وإنتاجه “مشاهد تجسد عمق الثقافة المغربية وتفاصيلها الحياتية. مازجا بين التوثيق الجمالي والإبداع”، وبين “الدقة الأنثروبولوجية والخيال التشكيلي”.
بلدان شريكان
تحدث إنريكي أوخيدا بيلا، سفير إسبانيا بالمغرب، عن “الأهمية الكبيرة جدا لكرسي الأندلس، الذي تأسّس بمبادرة من أكاديمية المملكة، بالتعاون مع سفارة مملكة إسبانيا”.
وقال: “المغرب وإسبانيا بلدان لا يجمعهما فقط الجوار الجغرافي، بل هما معا شريكان اقتصاديان وتجاريان، ويجمعنا التاريخ والتراث المشترك. وهناك حركية كبيرة وعلاقات ثنائية قوية تجمع البلدين والمواطنين من الضفتين”.
وأردف سفير مدريد بالرباط أنه في إطار كرسي الأندلس، “يوجد تفكير مشترك في مجموعة من القضايا المعرفية (…) والعمل الذي يقوم به الكرسي مهم جدا، ويتجلى أساسا في توطيد العلاقات بين بلدينا ومجتمعينا ومواطني الضفتين”.
وتحدث السفير عن “بعض الرسامين الإسبان الذين وجدوا في المغرب فضاء للإبداع ومنبعا للتألق”، مضيفا أن “مجموعة من الرسامين والفنانين الإسبان خلبَهم جمال المغرب مثل فورتوني وبيرتوتشي. (…) وقد تجلت أمامهم صورة للمغرب ذكّرتهم ببلدهم أيضا”.
لذلك، في سبيل “خدمة الثقافة المشتركة والتراث المشترك الذي يهمنا جميعا”، تنظّم هذه الندوة الدولية حول “ماريانو فورتوني والاستشراق في منتصف القرن التاسع عشر”، لتكون مفتتح لقاءات حول تجارب فنية تجمع ضفتي المتوسط، بإشبيلية في “مؤسسة الثقافات الثلاث”، وبتطوان في “معهد الفنون الجميلة”.
المغرب واكتشاف الأندلس
في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قال عبد الواحد أكمير، منسق كرسي الأندلس التابع للأكاديمية، إن ندوة “ماريانو فورتوني: الاستشراق في منتصف القرن التاسع عشر”، عقدت “بمناسبة مرور مائة وخمسين سنة على وفاة هذا الرسام الاستثنائي”.
وزاد: “لقد جاء فورتوني إلى المغرب سنة 1860 لتصوير أحداث حرب تطوان، ولكن بشكل مفاجئ أعجب بالمغرب وتعلق به؛ ولهذا لما انتهت الحرب عاد مرات إلى البلاد ليغوص في عمق الثقافة والمجتمع المغربيين، وبالتالي هو أول من صور، من بين الأوروبيين، المجتمع والثقافة المغربية في مختلف المدن المغربية، مثل تطوان وطنجة”.
و”الشيء الطريف في هذا الرسام”، وفق الأكاديمي أكمير، “أنه اكتشف الأندلس من خلال المغرب، عكس بقية المبدعين الإسبان، سواء كانوا أدباء أو رسامين، الذين كانوا يكتشفون المغرب من خلال الأندلس”.
ثم استرسل شارحا: “فورتوني من كاتالونيا، فهو بعيد جغرافيا عن إقليم الأندلس، وبالتالي لم يكن يعرف الثقافة الأندلسية؛ فلما جاء إلى المغرب اكتشفها في العمران، والمجتمع، وعادات الناس، واللباس، والطَّبِيخ… ورسم كل هذا، لكنه لم يكتف بذلك بل انتقل إلى الأندلس ليعيش التجربة الأندلسية، وأقام مدة طويلة في غرناطة، وهو رسام غرناطة الأندلسية بامتياز، ورسام قصر الحمراء، فتجد تقاطعا كبيرا بين ما رسمه عن المغرب وما رسمه عن الأندلس”.
بعد ذلك انتقل المَدروسةُ تجربتُه “ليعيش في باريس، وهناك أصبح حديث الصالونات الأدبية؛ فتوافد عليه الفنانون والمبدعون لما قدمه من تجديد في الاستشراق الفني، لأن الاستشراق الفني قبله كان يهتم بالشرق، أما هو فقد اهتم بالمغرب والأندلس، وبالتالي يعتبر استشراقه استغرابا، لأن المغرب والأندلس جغرافيا يوجدان في الغرب الإسلامي لا في الشرق الإسلامي”.
وختم أكمير تصريحه بالقول: “ما قدمه فورتوني في الرسم الاستشراقي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لا يقل أهمية عما قدمه أوجين دولاكروا حول هذا الاستشراق في النصف الأول من القرن التاسع عشر”.
مواضيع أصيلة
خافيير بارون ثايديغسمان، رئيس قسم لوحات القرن التاسع بمتحف البرادو بإسبانيا، الذي حال انقطاع الكهرباء الواسع عن بلده، الاثنين، دون حضوره لإلقاء محاضرته الافتتاحية، قال في كلمته التي قرأها بالنيابة زميله بالمتحف بيدرو خوسيه مارتينيز بلازا، إن “حب المغرب سبب من أسباب أصالة المواضيع التي تطرق لها فورتوني”.
وعادت كلمة المحاضر إلى أول علاقة فورتوني بالمغرب مصورا عسكريا لـ”معركة تطوان”، ثم تحوّل رؤيته بعد عودته إلى برشلونة، بعد دراسةٍ، صار معها “فنانا كبيرا”.
وتابعت المحاضرة الافتتاحية: “رغم اشتغاله على المعارك، فإن رسومه تسمح بفهم التغيير والتحول”، وله “قدرة فنية على التمييز بين مختلف المشاهد، على الرغم من الأفق المنخفض، مما دفعه للاستمرار في مشاهد معركة تطوان، حتى تصير السماء والسحب والأرضية امتدادا لبعضها البعض”.
ومن بين ما شرحته المحاضرة “تفاصيل عددية” في لوحة من لوحات “إعادة تمثيل مشهد معركة تطوان”، تظهر مخيم الإسبان “بواقعية”، وهو ما جاء بعد “دراسة ساحة المعركة بشكل دقيق”، وهو ما حثّه أيضا على “استعمال أسلوبٍ جديد”.
أما في مشاهد طنجة، فقد ركّز الفنان “على النزعة الواقعية”، مع كون لوحاته تعرف بتميزها بـ”التركيز على التشكيل ذي البعد الأفقي، لا العمودي”؛ فـ”تظهر مشاهد كما لو كانت متحركة، وكما لو أن الفضاء متوقف عالق في الزمن”.
ولفورتوني “أبعاد هندسية في أعماله، واهتمام بالعمران الإسلامي”؛ إذ “جمع المواضيع الإسلامية والإسبانية في لوحات مثلا حول ساحة غرناطة”، كما أنه يستعمل الضوء بشكل “يغير شيئا ما من ملامح الوجوه”، ويجد لديه الناظر أيضا “اهتماما كبيرا جدا بالفارس في إفريقيا”، ومثل دولاكروا اهتم بالفرسان الذين “يلعبون البارود”، والحيوان، الأليف والمفترس، وحضوره إلى جانب الإنسان.
وتحضر في لوحات فورتوني “محاولة لإظهار الفرق بين المغربي والأوروبي”، مع استمرار “علامة استفهام حتى بعد وفاته، حول وعيه للواقع في مظهر غريب وعجائبي”، علما أنه قد “حاول تعلم لغة المغاربة، وارتداء لباسهم، مع تعمق لاحق في المناطق الأقل تحضرا بالبلد، وعيشِ تجربةٍ بشكل صادق وعفوي”، وسعي لـ”ترجمة تلاقح مع الثقافة المحلية”.
0 تعليق