الإرهاب فى أفريقيا.. من جهاد الاقتصاد إلى تمدد الجماعات المسلحة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى قلب أفريقيا، حيث تتقاطع الجغرافيا مع هشاشة الدول، تبرز تهديدات الإرهاب كقضية أمنية عاجلة تؤثر على استقرار العديد من البلدان.

ففى موزمبيق، حيث يسعى تنظيم داعش لإعادة رسم خريطة مناطق نفوذه، استهدف هجوم نوعى فى أبريل 2025 الموقع السياحى "كامباكو" فى محافظة نياسا، محققًا تصعيدًا ميدانيًا خطيرًا بقتل جنود وتدمير منشآت اقتصادية حيوية.

وهو ما يعكس تحولًا فى استراتيجية التنظيم نحو "جهاد الاقتصاد"، مستهدفًا القطاعات الحيوية التى تعتمد عليها الدول الهشة أمنيًا.

فى الوقت ذاته، تظهر بنين، التى كانت تُعد من الدول المستقرة نسبيًا فى غرب أفريقيا، على خريطة العنف الجهادى بعد هجوم عنيف استهدف القوات العسكرية فى مقاطعة عليبورى شمال البلاد، والذى تبنته جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم القاعدة.

هذا الهجوم يمثل تحولًا كبيرًا لبنين، التى كانت حتى وقت قريب بعيدة عن ساحة المواجهات المسلحة، ليصبح التوسع الجهادى على حدودها مع بوركينا فاسو والنيجر نقطة ضعف جديدة فى معركة الساحل ضد الجماعات المتطرفة.

بينما تتزايد هذه الهجمات فى موزمبيق وبنين، يتضح أن الإرهاب فى أفريقيا لا يعرف حدودًا ثابتة، بل يتحرك بسرعة ليغذى الفوضى والانهيار فى المناطق الضعيفة أمنيًا، مما يطرح تساؤلات حول فعالية استجابة المجتمع الدولى لهذه التحديات المتنامية.

من كابو ديلجادو إلى نياسا

فى خبر بثّته وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم داعش، تبنّى التنظيم هجومًا وصفه بـ"النوعي"، استهدف موقع "كامباكو" السياحى فى محافظة نياسا شمال موزمبيق يوم السبت ١٩ أبريل، وأسفر عن مقتل ستة جنود من القوات الموزمبيقية، وتدمير آليات ومعدات بينها طائرة مروحية، فضلًا عن إحراق منشآت سياحية واغتنام أسلحة.

الهجوم الذى وقع داخل محمية "نياسا" يُعد تصعيدًا ميدانيًا ذا بعد رمزي، إذ صرّحت الوكالة أن العملية استهدفت "نصارى موزمبيق وحكومتهم واقتصادهم".

هذا الإعلان لا يمرّ مرور الكرام، إذ يكشف عن تحوّل فى استراتيجية التنظيم نحو ما يمكن تسميته بـ"جهاد الاقتصاد"، عبر ضرب القطاعات الحيوية للدول الهشة أمنيًا، وعلى رأسها السياحة.

فموزمبيق، رغم فقرها، تعتمد بشكل متزايد على المحميات الطبيعية لجذب السياح والمستثمرين الأجانب، وهو ما يجعلها هدفًا مثاليًا للجماعات التى تتغذى على الفوضى وانهيار الثقة بين المواطن والدولة.

ما وراء الرمزية الدينية والاقتصادية؟

لم يعد استهداف المواقع السياحية والاقتصادية أمرًا جديدًا فى استراتيجية تنظيم داعش، إذ سبق له أن ضرب منشآت مماثلة فى العراق وسوريا ونيجيريا وغيرها، مستهدفًا بذلك ما يراه "مصادر للتمكين الاقتصادى للكفار".

إلا أن اللافت فى الهجوم على محمية "نياسا" هو إقحام البُعد الدينى بوضوح، حيث يصف التنظيم الموقع بأنه "سياحى نصراني"، فى محاولة لربط الاستهداف بالأيديولوجيا العقدية.

هذا التصنيف لا يستند إلى حقائق دينية بقدر ما يعكس عقلية الإقصاء التى تروّج لها أدبيات التنظيم، والتى تعتبر كل ما يرتبط بالغرب أو بالمسيحية هدفًا مشروعًا ضمن ما تسميه "الجهاد ضد الصليبيين".

ويُلاحظ أن هذا النوع من الخطاب يضفى طابعًا طائفيًا مقصودًا على هجمات عسكرية ذات أهداف اقتصادية فى الأصل، إذ يسعى التنظيم من خلال هذه اللغة إلى تبرير استهداف المدنيين والبنية التحتية، وطمس الفرق بين الجبهة العسكرية والمدنية.

فالحديث عن شركات سياحية "نصرانية" لا يعنى بالضرورة أنها ذات صبغة تبشيرية أو دينية، بل قد تكون شركات تجارية بحتة، ولكن التنظيم يعمد إلى شحن عملياته بدلالات دينية من أجل تضليل الأتباع واستقطاب أنصار جدد، ولإضفاء مشروعية زائفة على أعماله التخريبية التى تضرب استقرار المجتمعات وتستهدف التنمية المحلية فى دول تعانى أصلًا من الهشاشة الاقتصادية والسياسية.

الهجوم يضرب فى عمق ثلاث دوائر

الدائرة الأمنية

الهجوم شكّل ضربة نوعية فى البُعد الأمني، إذ استهدف بشكل مباشر كلًا من القوات النظامية الموزمبيقية وعناصر شركات الأمن الخاصة المكلّفة بحماية المواقع السياحية.

فمقتل ستة جنود فى اشتباك مباشر، إضافة إلى قتل حراس من شركة أمنية خاصة، يؤكد اختراقًا واضحًا للمنظومة الأمنية فى منطقة يُفترض أنها تخضع لمراقبة وحماية مشددة، خصوصًا داخل محمية طبيعية ذات طابع استثماري.

هذا النوع من الضربات يُحدث ارتباكًا فى صفوف القوات الميدانية، ويُظهر قصورًا فى التنسيق الاستخباراتي، ما يمنح التنظيم مساحة لتعزيز صورته كقوة مهاجِمة مازالت قادرة على المبادرة رغم الضغوط العسكرية.

الدائرة الاقتصادية

من الناحية الاقتصادية، استهدف الهجوم منشآت سياحية واستثمارية ذات أهمية، عبر إحراق معدات وآليات، بينها طائرة مروحية، ما يُلحق ضررًا مباشرًا بقطاع السياحة البيئية فى البلاد، وهو من الموارد النادرة التى تراهن عليها موزمبيق لتعزيز اقتصادها المحلي.

مثل هذه العمليات تؤدى إلى هروب الاستثمارات وتراجع ثقة الشركات الأجنبية فى البيئة الأمنية، كما تنعكس سلبًا على فرص العمل والدخل للسكان المحليين الذين يعتمدون على هذه المشاريع. التنظيم يدرك أن تقويض البنى التحتية الاقتصادية فى الدول الهشة هو أحد أسرع الطرق لإضعاف الحكومات وتوسيع الفوضى.

الدائرة الرمزية

أما على المستوى الرمزي، فيحمل الهجوم دلالة واضحة على قدرة التنظيم على الحركة والضرب فى عمق الأراضى الموزمبيقية، رغم حملات القمع والملاحقة الأمنية المكثفة التى يتعرض لها منذ سنوات.

الموقع المستهدف داخل محمية "نياسا" بعيد نسبيًا عن بؤر النزاع الساخنة، ما يعنى أن التنظيم لم يُهزم بل يعيد الانتشار وينقل معركته إلى مناطق أقل توقعًا.

هذه الرسالة موجهة إلى الداخل والخارج على حد سواء: إلى خصومه بأنه ما زال فاعلًا، وإلى أنصاره بأنه لم يفقد زمام المبادرة، مما يعزز روايته الدعائية عن "الصمود" و"التمدد رغم الحصار".

لماذا نياسا؟ ولماذا الآن؟

محافظة نياسا تحتل موقعًا جغرافيًا بالغ الأهمية بالنسبة لأى تنظيم مسلح يسعى إلى التوسع وإعادة التموضع. فهى تقع فى شمال موزمبيق، وتُعد منطقة جبلية وعرة تغلب عليها الغابات والممرات الطبيعية الوعرة، ما يمنح المسلحين هامش حركة واسعًا وقدرة على التخفّى والتنقل بعيدًا عن أعين السلطات.

كما أن نياسا تحدّها من الشمال تنزانيا ومن الغرب مالاوي، ما يجعلها منطقة مثالية للتهريب العابر للحدود والانسحاب التكتيكى عند الضغط العسكري.

أما محمية "نياسا" السياحية تحديدًا، فهى أقل تحصينًا من الناحية العسكرية مقارنة بمناطق النزاع الساخنة مثل إقليم كابو ديلجادو، ما يجعلها هدفًا سهلًا وفعّالًا للهجمات السريعة، خصوصًا تلك التى تستهدف رموز الدولة الاقتصادية أو الأمنية.

توقيت الهجوم لا يقل أهمية عن موقعه؛ فهو يأتى فى لحظة يعانى فيها التنظيم من تراجع ميدانى واضح فى معاقله التقليدية بإقليم كابو ديلجادو، نتيجة للعمليات العسكرية المشتركة التى تشنها القوات الموزمبيقية مدعومة بوحدات من الجيش الرواندى وقوات مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (سادك).

هذا الضغط العسكرى أجبر التنظيم على البحث عن مناطق جديدة يُعيد من خلالها بناء شبكاته وخطوط إمداده، دون الدخول فى مواجهات مباشرة غير متكافئة.

الهجوم فى نياسا يُعد رسالة مزدوجة: من جهة يؤكد أن التنظيم ما زال قادرًا على المبادرة وشنّ عمليات نوعية رغم الحصار؛ ومن جهة أخرى يختبر جاهزية الجيش الموزمبيقى فى مناطق لم تُعرف سابقًا كجبهات صراع، مما يساهم فى توسيع جغرافيا الاشتباك ونقل المعركة إلى أراضٍ جديدة.

البعد الإعلامى والدعائي

لا يمكن قراءة هذا الهجوم بمعزل عن استراتيجية التنظيم الإعلامية التى دأب على توظيفها منذ نشأته، والتى تقوم على تضخيم أثر عملياته الميدانية لصناعة "صورة ذهنية" أكبر من الواقع.

فالتنظيم، عبر وكالة "أعماق"، ركّز على إبراز عناصر محددة مثل إحراق طائرة مروحية والسيطرة على "موقع سياحى ثمين"، وهى تفاصيل قد لا تكون حاسمة ميدانيًا، لكنها تُستخدم إعلاميًا كأدوات لإظهار القوة والمباغتة.

فى هذه اللغة الدعائية، لا يهم حجم العملية بقدر ما يهم قدرتها على إحداث صدمة نفسية لدى العدو، وبث الانبهار أو الحماسة فى أوساط المتابعين أو المتعاطفين.

هذا النوع من العمليات يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الصدمات الرمزية"، وهى هجمات لا تهدف بالضرورة إلى السيطرة على الأرض أو تحقيق نصر استراتيجي، بل إلى تسجيل حضور مدوٍّ فى الفضاء الإعلامي.

فتنظيم الدولة يدرك أن المعركة اليوم لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالكاميرا والبيان والخبر العاجل. ومن خلال تصوير عملياته على أنها نوعية وضخمة، يسعى إلى رفع معنويات أنصاره الميدانيين، واستقطاب عناصر جديدة قد تتأثر بقوة "الحدث المصوَّر".

وفى الوقت ذاته توجيه رسالة ردع إلى خصومه مفادها أن التنظيم لا يزال حاضرًا ومبادرًا، وقادرًا على تجاوز الحصار العسكرى بتحقيق اختراقات دعائية واسعة التأثير.

الإرهاب كأداة لتقويض الدولة

ما حدث فى محافظة نياسا لا يمكن اختزاله فى كونه مجرد هجوم مسلح نفذته جماعة متطرفة، بل هو تعبير واضح عن استراتيجية منظمة تسعى لتقويض مقومات الدولة الموزمبيقية من جذورها.

فاختيار هدف اقتصادى فى منطقة مهمّشة أمنيًا، واستهداف منشآت حيوية تعود بالنفع على المجتمع المحلي، يعكس إدراكًا عميقًا من التنظيم لنقاط ضعف الدولة وهشاشتها.

إنها ضربة موجهة ضد فكرة السيادة نفسها، وضد قدرة الدولة على حماية أراضيها، وتشجيع مزيد من الفوضى التى يمكن استثمارها لاحقًا لتوسيع النفوذ. بهذا المعنى، يصبح الإرهاب أداة ممنهجة لتفكيك السلطة المركزية، وفرض واقع جديد تتحرك فيه الجماعات المسلحة كقوى منافسة للدولة.

صمت الاتحاد الأفريقى وتراجع الغرب

تعرضت بنين فى ١٧ أبريل ٢٠٢٥، لهجوم مسلح هو من بين الأعنف فى تاريخها الحديث، حين استهدفت جماعة مسلحة دورية عسكرية فى مقاطعة عليبوري، الواقعة شمال البلاد بالقرب من الحدود مع بوركينا فاسو والنيجر.

ورغم أن المعلومات الأولية تحدثت عن مقتل ثمانية جنود، إلا أن السلطات أعلنت لاحقًا عن حصيلة ثقيلة بلغت ٥٤ قتيلًا من أفراد الجيش البنيني، فى صدمة وطنية غير مسبوقة.

وقد وقع الهجوم داخل منتزه "دبليو" الوطني، وهى منطقة كثيفة الغابات تستخدمها الجماعات الجهادية كملاذ وكممر للتنقل عبر الحدود.

وقد سارعت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، المرتبطة بتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامي، إلى تبنى العملية، فى خطوة تسلط الضوء على التوسع المستمر لنشاطها باتجاه الجنوب.

ويعكس هذا الهجوم المؤلم تحول بنين من بلد هامشى فى خريطة العنف الجهادى إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بعدما كانت تُعد حتى وقت قريب من الدول المستقرة نسبيًا فى منطقة غرب أفريقيا. لكن تموضعها الجغرافى بين أربع دول، اثنتان منها (بوركينا فاسو والنيجر) تعانيان من انفلات أمني، جعل منها نقطة اختراق محتملة ومغرية بالنسبة للجماعات المسلحة الساعية إلى التمدد نحو ساحل غرب أفريقيا.

الهجوم والوضع الإقليمي

يمثل الهجوم الدامى الأخير فى شمال بنين مؤشرًا واضحًا على أن البلاد باتت فى قلب معادلة أمنية إقليمية متغيرة جذريًا، حيث يتجه التهديد الجهادى جنوبًا من مناطق الساحل التقليدية نحو دول كانت تُعد سابقًا خطوطًا خلفية آمنة.

فالمعركة لم تعد محصورة فى مالى أو بوركينا فاسو أو النيجر، بل امتدت لتطرق أبواب دول خليج غينيا، وعلى رأسها بنين. هذه الديناميكية الجديدة تنذر بتحول جغرافى واستراتيجى فى تموضع الجماعات المسلحة، مع ما يحمله ذلك من تهديدات أمنية واقتصادية وسياسية لدول لم تكن فى الأصل مهيأة لخوض حرب طويلة الأمد ضد جماعات تتقن حرب العصابات والكمائن الحدودية.

ويبدو أن هذا التمدد الجهادى لم يعد مجرد سيناريو محتمل أو تحليل استباقي، بل أصبح واقعًا ميدانيًا ملموسًا، تدعمه وتيرة متصاعدة من الهجمات فى مناطق حدودية معروفة بضعف المراقبة وصعوبة التضاريس.

المناطق الشمالية من بنين، لا سيما المتاخمة لبوركينا فاسو والنيجر، أصبحت نقاط تماس حساسة، تستخدمها الجماعات المسلحة ليس فقط للعبور، بل أيضًا لتنفيذ عمليات تستهدف الجيش والبنية الأمنية، كما حدث فى منتزه "دبليو" الوطني.

هذه المناطق باتت تشكل فراغًا أمنيًا يتقاطع فيه انهيار الدولة فى دول الساحل مع غياب بنية دفاعية قوية فى دول خليج غينيا.

وتغذى هذا الانفلات عدة عوامل متشابكة، أهمها الهشاشة السياسية والأمنية المتزايدة فى بلدان الجوار، خاصة بعد الانقلابات العسكرية التى بدأت فى مالى عام ٢٠٢١ وامتدت إلى بوركينا فاسو والنيجر، ما أدى إلى انسحاب تدريجى للقوات الدولية، وفكفكة الآليات الإقليمية متعددة الأطراف مثل بعثة الأمم المتحدة فى مالى (مينوسما) وقوة مجموعة الساحل الخماسية.

وبهذا، أصبحت الجماعات الجهادية تتحرك فى بيئة أقل رقابة، وأكثر سيولة، مستفيدة من تراجع الضغط العسكرى الدولي، ومن هشاشة الحدود، لتوسيع نطاق عملياتها وتصدير العنف إلى مناطق جديدة، وعلى رأسها بنين.

الفراغ الأمنى ومسئولية القوى الكبرى

يشكل الفراغ الأمنى فى منطقة الساحل الأفريقى أحد أبرز العوامل التى ساهمت فى تصاعد التهديد الجهادى وتمدده جنوبًا نحو دول مثل بنين. هذا الفراغ لم ينشأ صدفة، بل جاء نتيجة مباشرة للانسحاب المتسارع للقوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، من قواعدها العسكرية ونقاطها الحدودية الحيوية، عقب الانقلابات العسكرية التى ضربت مالى ثم بوركينا فاسو والنيجر.

وقد كانت هذه القواعد تمثل خط الدفاع الأول، ليس فقط عن تلك الدول، بل عن كامل الشريط الساحلي، بما فى ذلك دول خليج غينيا التى تعتمد إلى حد كبير على الشراكات الخارجية فى حفظ أمنها الحدودي.

الانسحاب الفرنسي، بعد سنوات من العمليات العسكرية ضمن "برخان" وما قبلها، ترك خلفه فجوة عسكرية واستخباراتية كبيرة.

فعلى الرغم من الانتقادات التى طالت الأداء الفرنسي، إلا أن وجودها كان يشكل عامل ردع للجماعات المسلحة، كما كان يتيح مراقبة الحدود الواسعة والصعبة التضاريس.

وبغياب هذا الوجود، تراجعت قدرة الدول الهشة على تتبع تحركات المسلحين أو التصدى لهم، وهو ما ظهر جليًا فى سلسلة الهجمات التى تعرضت لها بنين خلال السنوات الثلاث الماضية، culminating فى مجزرة عليبورى الأخيرة.

من جهتها، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تحاول الحفاظ على موطئ قدم لها فى غرب أفريقيا، لكنها فى الواقع تعيد تموضعها بطريقة تعكس تراجعًا استراتيجيًا واضحًا.

فبينما تصدر وزارة الخارجية الأمريكية بيانات تؤكد أهمية بنين كمحور استقرار فى المنطقة، فإن انسحاب القوات الأمريكية من النيجر، وإغلاق عدد من مواقعها هناك، يضعف بشكل مباشر قدرة واشنطن على التأثير الفعلى فى محاربة التمدد الجهادي.

هذا التناقض بين الخطاب السياسى والفعل الميدانى أتاح للمسلحين مساحة مناورة أوسع، وأفرغ الجهود الإقليمية من مضمونها.

فى الوقت نفسه، تبدو الآليات الإقليمية عاجزة عن ملء هذا الفراغ. فـ"قوة مجموعة الخمس فى الساحل"، التى تأسست كإطار أمنى مشترك بين دول الساحل، تراجعت فعاليتها بفعل الخلافات السياسية، وتفكك بعض أعضائها، وغياب التمويل المستقر.

أما بعثة الأمم المتحدة فى مالى (مينوسما)، فقد تم سحبها بشكل نهائى فى ظل رفض المجلس العسكرى الحاكم وجود قوات أممية. وفى غياب هذه الأطر، تجد دول مثل بنين نفسها وحيدة فى مواجهة تمدد جهادى منظم، عابر للحدود، يستفيد من التناقضات الدولية والانقسامات الإقليمية ليعيد رسم خارطة التهديد فى غرب أفريقيا.

بنين تحت الضغط.. عسكريًا وسياسيًا

تجد حكومة الرئيس باتريس تالون نفسها اليوم أمام تحدٍّ أمنى غير مسبوق، بعدما باتت بنين فى مرمى الهجمات الجهادية المتكررة.

ورغم أن السلطات أطلقت فى عام ٢٠٢٢ عملية "ميرادور" كخطة دفاعية لاحتواء الخطر فى المناطق الحدودية الشمالية، ونشرت بموجبها نحو ٣٠٠٠ جندى قبل أن ترفع العدد إلى ٨٠٠٠ لاحقًا، فإن الهجمات الأخيرة، خصوصًا مذبحة عليبوري، كشفت عن فجوات خطيرة فى البنية العسكرية.

هذه الثغرات تتراوح بين نقص التدريب المناسب لمواجهة حروب العصابات، وضعف الاستعداد الاستخباراتي، إلى جانب غياب رؤية تكتيكية للتعامل مع جماعات سريعة الحركة، تستخدم التضاريس لصالحها، وتتفوق بخبرتها القتالية المكتسبة من سنوات من الاشتباك مع جيوش المنطقة.

من الناحية العملياتية، تبدو القوات البنينية غير مجهزة بعد لخوض مواجهة مفتوحة مع جماعات مسلحة تمتلك خبرة قتالية، وعتادًا تم الاستيلاء عليه من جيوش أخرى منهارة، كما فى مالى وبوركينا فاسو.

معظم العمليات التى تنفذها "ميرادور" تقتصر على دوريات حدودية ورصد تحركات، لكنها تفتقر إلى القدرة الهجومية أو التنسيق الاستخباراتى العابر للحدود، الأمر الذى يمنح المبادرة للجماعات المسلحة.

وقد كشفت تقارير غير رسمية أن هذه الجماعات باتت تملك شبكات دعم محلية محدودة فى بعض القرى الشمالية، إما عن طريق التهديد أو شراء الولاءات، ما يزيد من صعوبة المواجهة الميدانية.

سياسيًا، تحاول الحكومة احتواء الغضب الشعبى المتزايد بلغة وجدانية وإنسانية، عبّر عنها المتحدث باسم الحكومة ووزراء آخرون، من خلال وصف الجنود القتلى بأنهم "أطفال وأصدقاء وآباء"، فى محاولة لخلق تعاطف وطنى والتأكيد على التضحيات المقدّمة.

ورغم أهمية هذا الخطاب فى لحظات الحداد الوطني، فإنه لا يعوّض غياب خطاب استراتيجى واضح يحدد معالم المواجهة القادمة، أو يوضح ما إذا كانت الحكومة ستنتقل من سياسة الدفاع إلى استراتيجية هجومية احترازية.

وعلى الرغم من هذا الضغط العسكرى والسياسي، لا تزال حكومة تالون تُظهر ترددًا فى تبنى مقاربات أمنية أكثر جرأة، سواء عبر إنشاء تحالفات عسكرية إقليمية جديدة أو عبر طلب دعم عسكرى مباشر من حلفاء غربيين أو أفارقة.

هذا التردد قد يكون نابعًا من حرص على السيادة الوطنية أو حسابات داخلية، لكنه يفتح الباب أمام تصاعد التهديد، واحتمال انتقال العنف من الأطراف إلى مراكز الدولة، بما فيها المدن الكبرى، وهو سيناريو سيكون أكثر كلفةً، ليس فقط من حيث الأرواح، بل أيضًا على صعيد استقرار الدولة وثقة مواطنيها فى قدرتها على حمايتهم.

أين المشروع الإقليمى المشترك؟

يُثير الهجوم الأخير فى شمال بنين سؤالًا استراتيجيًا كبيرًا طالما جرى تجاهله: أين هو المشروع الإقليمى المشترك لمواجهة التهديدات الجهادية المتزايدة؟ فحتى الآن، لا تزال دول الجنوب الساحلى مثل بنين وساحل العاج وتوغو وغانا، تعمل بشكل منفرد فى إعداد خططها الدفاعية، دون إطار تنسيقى جامع يدمج الجهود الأمنية والاستخباراتية.

هذا الغياب للتنسيق يُضعف من قدرة كل دولة على التصدى لعدو عابر للحدود، يتحرك بحرية عبر مناطق التماس، ويستفيد من الحدود الطويلة وغير المحكمة التى تفصل بين هذه الدول وبين بلدان الساحل الملتهبة.

لقد ثبت مرارًا أن المقاربة الوطنية الصرفة لم تعد كافية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بجماعات تتبع استراتيجية التمدد المتدرج، وتستهدف نقاط الضعف فى خطوط الدفاع الهشة.

ولهذا، فإن غياب مشروع أمنى جماعى إقليمى يجعل من كل دولة فى هذا الحزام الجغرافى هدفًا سهلًا، يُستنزف على حدة. المطلوب ليس فقط تبادل معلومات استخباراتية، بل بناء منظومة أمنية هجومية واستباقية تشمل تدريبات مشتركة، ومراكز قيادة موحدة، وخطط طوارئ عابرة للحدود، تكفل التصدى السريع والمنسق لأى تهديد.

وفى ظل هذا الفراغ، يبرز تقاعس الاتحاد الأفريقى كمصدر إضافى للقلق. فالمنظمة القارية، التى يُفترض أن تكون راعية لتوجهات الأمن الجماعي، لم تتجاوز حتى الآن البيانات الإنشائية والتصريحات المتكررة عن "القلق" و"الدعوة إلى التعاون"، دون أن تضع يدها على آليات تنفيذية ملموسة تُفعِّل دورها كجهة قائدة لسياسات الدفاع الإقليمي.

لا وجود حتى اليوم لمبادرة أمنية جماعية فعالة تنبع من داخل الاتحاد، رغم مرور أكثر من عقد على اندلاع موجة العنف الجهادى فى الساحل.

هذا الغياب المؤسسى للمبادرة يفتح الباب أمام مزيد من الاعتماد على القوى الدولية، التى تنسحب بدورها تدريجيًا، ما يخلق حلقة فراغ أمنى تتسع مع كل هجوم جديد. ومن دون إطار إقليمى موحّد، ستبقى دول الجنوب الساحلى تتعامل مع الخطر بأسلوب رد الفعل، بدلًا من تبنى استراتيجية إقليمية فاعلة تُبادر إلى تحجيم التهديد فى منابعه، لا انتظاره عند بواباتها.

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق