الثقافة البصرية العنيفة تشرعن السلوك العدواني وتزعزع منظومة القيم

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تشهد عدد من المجتمعات اليوم تفشيًا مقلقًا لمظاهر العنف والإجرام، بلغت في بعض الحالات مستويات صادمة تمثلت في ارتكاب جرائم قتل وحشية وتقطيع للجثث، في مشاهد تُحاكي أحيانًا أفلام الرعب السينمائية، وهو ما يستدعي التأمل في التحولات العميقة التي طالت المنظومة القيمية والسلوكية، وفهم الخلفيات التي تغذي هذا الانزلاق نحو العنف.

وفي ظل هذا الواقع، يُطرح إشكال تأثير الثقافة البصرية العنيفة في تشكيل سلوك الأفراد، سواء من خلال الأفلام أو الألعاب الإلكترونية أو المحتويات الرقمية، كما يُثار تساؤل حول كيفية تحوّل العنف من سلوك مرفوض إلى مألوف، وأحيانًا إلى سلوك مرغوب فيه، مما يستدعي التفكير الجدي في آليات الحماية النفسية والتربوية التي تقي الأفراد من التطبيع مع العنف أو الانجراف نحو سلوك إجرامي.

دوافع للإيذاء والتدمير

مصطفى السعليتي، أستاذ علم النفس الاجتماعي، قال إن “المجتمع المغربي يشهد جرائم عنف مقلقة رغم ندرتها الإحصائية، مما يكشف عن خلل في بنية الشخصية لدى بعض الأفراد، حيث يصبح العنف نمطًا سلوكيًا مقبولًا أو حتى مرغوبًا، نتيجة لعوامل نفسية عميقة تتجاوز الدوافع الفطرية، وتصل إلى التلذذ بالتدمير والإيذاء.”

وأضاف السعليتي، في تصريح لهسبريس، أن “الدراسات النفسية تشير إلى أن بعض الشخصيات المرضية، مثل السيكوباتية أو العصابية، تحمل دوافع تدميرية كامنة تتجاوز الغرائز الطبيعية”، موردا أن “هذه الدوافع تتجلى في ميول العدوان والسادية، حيث يسعى الفرد لتدمير الآخر أو إلحاق الأذى به لمجرد الإشباع النفسي، لا لحاجة بيولوجية.”

وأكّد الأستاذ الجامعي أن “دوافع العنف عند الإنسان لا تقتصر على ردود فعل فطرية كالجوع أو الخوف، بل تشمل دوافع أعمق تتعلق برغبات تدميرية، تتجلى عندما يكون الضمير الداخلي ضعيفًا، وهذا الضمير، أو الأنا الأعلى، يتراجع في غياب التربية الأخلاقية، ما يؤدي إلى تطبيع العنف كأداة لتحقيق الأهداف.”

وأشار المتحدث ذاته إلى أن “الثقافة البصرية في العصر الحالي، سواء عبر السينما أو الألعاب الرقمية أو الإعلام الرقمي، تساهم في التطبيع مع العنف”، موضّحا أن “تكرار مشاهد القتل والتشفي في هذه الوسائط يجعل العنف أمرًا عاديًا، ما يؤدي إلى تبلد المشاعر الإنسانية وتقبل هذا السلوك العدواني في الوعي الجمعي، خاصة لدى اليافعين.”

العنف وفقدان القيم

وأفاد مصطفى السعليتي بأن “العنف اليوم أصبح غالبًا لا يعكس اختلالًا عقليًا ظاهرًا، بل يعكس سلوكًا طبيعيًا لشخصيات تحمل قناعًا اجتماعيًا ظاهرًا، لكنها تخفي دوافع عدوانية متجذرة”، مضيفا أن “هذه الشخصيات لا تشعر بالذنب عند ارتكاب أفعال عنيفة، بل ترى أن العنف وسيلة لاستعادة السيطرة أو الانتقام.”

وأضاف أن “ما يزيد من تعقيد الوضع هو تراجع قيم الإنسان في ظل الثقافة السائدة”، مشيرا إلى أن “احترام الحياة والإنسان يختفي، ويُصبح القتل والموت أمرًا عاديًا في وسائل الإعلام، وهذا يؤدي إلى فقدان الإنسان لمعناه ودوره في الحياة، ويجعل من العنف وسيلة لحل المشاكل أو الشعور بالقوة.”

وجاء ضمن توضيحات السعليتي أن “الوضع الحالي يعكس ما يُسمى عودة البربرية في المجتمعات، حيث تصبح النزعات الفردانية والطموحات الشخصية بديلاً عن الروابط الإنسانية”، مؤكّدا أن “القيم الأخلاقية والضمير الجمعي يضعفان، ما يجعل العنف أسلوبًا حياتيًا مشروعًا لتحقيق الأهداف الشخصية، ويزيد من العدوانية في العلاقات الاجتماعية.”

ودعا أستاذ علم النفس الاجتماعي إلى “العودة إلى القيم الإنسانية من خلال التنشئة الاجتماعية السليمة”، موضحا أن “الأنظمة التربوية مطالبة بتعزيز القيم الأخلاقية والدينية، وتعليم الأطفال احترام الذات والآخر”، معتبرا أن “التربية الشاملة وحدها يمكن أن تعيد بناء ضمير الإنسان وتُحول دون تنامي العنف في المجتمع.”

تكرارٌ ودمجٌ في التسلية

ندى الفضل، أخصائية ومعالجة إكلينيكية، قالت إن “العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية تشير إلى وجود علاقة غير مباشرة بين التعرض المتكرر للمحتوى العنيف، سواء في الأفلام أو الألعاب الإلكترونية، أو الإعلام الرقمي، وبين ارتفاع مستوى التسامح مع العنف، وأحيانًا الميل إلى تقليده، خاصة عند الفئات الصغيرة أو المراهقة”.

وأشارت الفضل إلى أن “هذه العلاقة لا تعني أن كل من يشاهد أفلام العنف سيصبح مجرمًا، لكنها قد تؤثر على طريقة تفسير الناس للصراعات وميلهم لحلّها بالعنف، وانخفاض التعاطف مع الضحايا، وتحفيز بعض الأشخاص الذين لديهم ميول عدوانية أصلًا للقيام بأفعال أكثر تطرفًا، بعد أن يستلهموا من هذه المواد أدوات التنفيذ أو حتى مبرراتها”.

وأضافت المتحدثة ذاتها أن “نظرة الإنسان تجاه العنف وبلوغها درجة التطبيع تتشكل من خلال عدة عوامل، أبرزها التكرار، لأن كثرة التعرض المستمر لمشاهد العنف، ولو كان خياليًا أو تمثيليًا، يخلق حالة من الاعتياد، فيتبلّد الإحساس تدريجيًا”.

وذكرت الأخصائية ضمن العوامل أيضا “دمج السلوك العنيف مع التسلية، وذلك حين يُقدَّم العنف في سياق ممتع (لعبة، فيلم مشوّق)، ويتم ربطه بالإثارة والنجاح، لا بالقبح أو الخطر”، و”غياب البدائل القيمية، لأن غياب التربية على البدائل كالتسامح وضبط النفس، يجعل العنفَ الخيار الأسهل أو الأوحد”.

قدوةٌ ورقابةٌ ونقاشٌ

وشددت المعالجة الإكلينيكية، في تصريح لهسبريس، على أن “القدوة العنيفة، كأحد أفراد العائلة أو إحدى الشخصيات المشهورة، تشرعن السلوك العنيف”، إضافة إلى خطورة “الاضطرابات النفسية لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات ذهانية كاضطراب الفصام…”.

وعن سبل الحماية من التطبيع مع العنف، قالت الفضل إن “الحماية لا تعني المنع الكامل، بل تعتمد على التوجيه والمراقبة والتربية القيمية”، مشيرة إلى أهمية “الرقابة الواعية، من خلال متابعة ما يستهلكه الأبناء دون تجسس، بل من خلال الحوار والمشاركة”، و”توفير بدائل ذكية على شكل محتوى ترفيهي جذاب وغير عنيف، كالألعاب التعليمية والأفلام الإنسانية”.

ودعت ندى الفضل إلى “النقاش والتحليل”، موضحة أنه “عند مشاهدة محتوى عنيف، لا بد من التحدث مع الطفل أو المراهق عن ذلك المحتوى، وطرح أسئلة من قبيل: هل كان الحل عنيفًا؟ هل هناك طرق أخرى لحل ذلك المشكل؟ هل هذا بطل حقيقي؟”.

وأكدت الأخصائية والمعالجة الإكلينيكية ضرورة “تعزيز القيم، من خلال القصص والتجارب الحياتية والقدوات الطيبة”، و”الحرص على التوازن الرقمي، عبر تقليل الاعتماد على الشاشات، وزيادة الأنشطة الواقعية كالرياضة والتطوع والفنون…”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق