نجوم ارتبطت جهودهم بمشروعات قومية غيرت وجه مصر الحديث، خاضوا معارك البناء والتحدي في أصعب الظروف، وأسهموا بعرقهم وسواعدهم في تحقيق إنجازات لا تزال آثارها باقية إلى يومنا هذا، فمن على ضفاف النيل، إلي قلوب الصحارى، مرورًا بامتدادات الترع والمصارف، يعمل رجال وزارة الري بصمت وإخلاص، ليل نهار، للحفاظ على كل قطرة ماء، وإدارة الثروة المائية التي تعد شريان الحياة في بلد يعاني من ندرة الموارد المائية، هم الجنود المجهولون الذين لا يراهم أحد، ولكن أثرهم واضح في كل حقل يروى، وكل قرية تصلها المياه النظيفة، وكل مصرف يطهر لحماية الأرض والزرع والناس من الغرق والأمراض، ولعل ملحمة بناء السد العالي تبقى المثال الأعظم على عظمة العامل المصري، حين اصطف آلاف العمال إلى جوار المهندسين والخبراء المصريين والسوفييت، لبناء أعظم مشروع تنموي في القرن العشرين، متحدين الظروف المناخية القاسية، ونقص الإمكانيات، وتحكم الطبيعة، فكان هؤلاء العمال أبطالًا حقيقيين، سطروا تاريخًا لا ينسى بدمائهم وتضحياتهم، في سبيل استقلال القرار الوطني، وتأمين مستقبل الأجيال القادمة من خطر الفيضانات والجفاف.
فمع إطلالة الأول من مايو في كل عام، تتجه الأنظار نحو "سحرة الماء"، الذين يحولون القحط إلى جنة خضراء، و"عمالقة الصخر" الذين نحتوا في قلب الجبال سدودًا شامخة، شاهدة على إرادة أمة، هم أولئك الذين يسهرون ويبنون ويعملون بجد لتزدهر أوطانهم، إنهم عمال وزارة الري وبناة السد العالي، أولئك الذين رووا أرضنا بعرقهم وحموا خيرها بجهدهم، ومن أجل ذلك قررت "البوابة نيوز" أن تسلط الضوء على بعض قصصهم وتعيد نشرها في احدي أعدادها الخاصة، ليكون تكريمًا لهم في يوم عيدهم، لنرفع القبعة إجلالًا لكل يدٍ حفرت قناة، أو رفعت جسرًا، أو أصلحت بوابة، أو شاركت في بناء صرح كالسد العالي، لنحتفل بهم لا بالكلمات فقط، بل بتقدير حقيقي لدورهم، وبالعمل على تحسين أوضاعهم، وتوثيق إنجازاتهم، فهم بحق عماد التنمية، وجنود مصر في معركة البقاء والنماء.

ذكريات لا تُنسى
"اخلصوا العمل فأخلص الله العطاء".. هكذا استعاد أحمد النوبي، ذكريات لا تنسى عاشها عن قرب، حين كان يعمل فنيً هيدروليكي بين آلاف العمال الذين ساهموا في كتابة هذا الفصل المضيء من تاريخ مصر الحديث.
قال النوبي، إن السد العالي ظل يحمي مصر من الفيضان والجفاف حتى يومنا هذا، ولكن هناك لحظات فارقة في تاريخ المشروع منها ذكرى تحويل مجرى النهر، مشيرًا إلى أن الاستعدادات لهذا الحدث التاريخي استمرت على مدار ثلاثة أيام متتالية، من 14 إلى 16 مايو عام 1964، وأضاف: "في تلك الأيام كنا نعمل بإخلاص وإيمان أن ما نقوم به هو من أجل مصر، فأخلص الله لنا العطاء، وكانت النتيجة.
وأوضح النوبي، أن أعمال غلق المجرى المائي جرت بإلقاء كميات ضخمة من الصخور والأتربة باستخدام سيارات نقل ضخمة، مع ترك فتحة بعرض 50 مترًا فقط لمرور المياه، إلى أن جاء يوم الاحتفال الكبير، حيث جرت عملية ردم هذه الفتحة بالكامل وتحويل مجرى النهر بشكل رسمي، بعد تفجير السد الرملي أمام وخلف جسم السد العالي.
واستطرد قائلًا: "انطلقت لحظة التحويل التاريخية في تمام الساعة الواحدة و40 دقيقة ظهرًا، حين تم غلق المجرى المائي نهائيًا، وتحويل المياه إلى القناة الأمامية للسد العالي، والتي يبلغ طولها نحو 1950 مترًا، وتمر بستة أنفاق رئيسية، يبلغ طول كل نفق 282 مترًا، وقطره 15 مترًا".
وأشار إلى أن هذه المرحلة المهمة من المشروع، والتي انتهت بتحويل مجرى النيل، كانت تتويجًا لجهود مضنية بدأت منذ 9 يناير 1960، واستمرت حتى منتصف مايو 1964، لتعلن انتهاء المرحلة الأولى من بناء السد، وبدء صفحة جديدة من التقدم والرخاء في تاريخ مصر.

"بأيدينا وسواعدنا"
وفي مشهد آخر من ذاكرة ملحمة البناء، استعاد شوقي علي، أحد سائقي البلدوزرات الذين شاركوا في أعمال التمهيد لبناء السد العالي، ذكرياته قائلًا: "اتجه المهندسون في البداية شرقًا وغربًا داخل محافظة أسوان، حتى استقروا على الموقع الأنسب لإقامة السد، وكنا نحن العمال ننقل الرمال والصخور لردم المجرى القديم وفتح مجرى جديد للسد، وكل ذلك بأيدينا وسواعدنا".
وأضاف شوقي بحزن ممزوج بالفخر: "كثير من زملائنا لقوا حتفهم أثناء العمل، أسفل الصخور العملاقة أو في أثناء عمليات التفجير، وكانت لحظات صعبة، لكن الحماس كان يملأ قلوبنا، ولم نكن نرى في ما نقوم به مجرد إنشاء سد للمياه، بل كنا نرى أننا نبني حضارة ونهضة حقيقية لمستقبل بلدنا".
وأوضح شوقي أن روح التفاني في العمل كانت تسيطر على الجميع، إلى حد أن بعض زملائه كانوا يرفضون مغادرة مواقعهم حتى في أوقات الراحة، مدفوعين بإحساس عميق بالمسئولية والرغبة في إنجاز هذا المشروع الوطني العملاق، قائلًا: "كان كل واحد فينا بيشتغل وهو حاسس إنه بيكتب سطر في تاريخ مصر".
المهندس محمد فرج الله، الرئيس الأسبق لشركة المحطات المائية بالسد العالي، أكد أن ملحمة بناء السد كانت معركة وطنية خاضتها مصر على كافة الأصعدة، السياسية منها قبل الفنية، مشيرًا إلى أن فكرة المشروع ولدت من رحم تحديات دولية فرضت نفسها بقوة خلال خمسينيات القرن الماضي.
وأوضح فرج الله، أن مصر بدأت في عام 1955 خطوات جادة نحو تأمين تمويل لبناء السد العالي، حيث توجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والبنك الدولي، الذين أبدوا في البداية استعدادهم لتمويل المشروع، إلا أن تلك الوعود ترافقت مع شروط سياسية وصفها بـ"المجحفة"، تمس بالسيادة الوطنية لمصر.
وأشار فرج الله، إلى أن إعلان البنك الدولي عن تمويل السد تزامن مع مذكرة صادرة عن بريطانيا وأمريكا، تتضمن قيودًا غير مقبولة، الأمر الذي رفضه الرئيس جمال عبد الناصر جملة وتفصيلًا، وفي لحظة فارقة من تاريخ مصر، جاء رد عبد الناصر الحاسم بسحب تمويل السد العالي عبر قرار تاريخي بتأميم شركة قناة السويس في عام 1956، ما وفر لمصر الموارد اللازمة لبدء المشروع اعتمادًا على إرادتها السياسية ودعم الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.

التفكير العلمى
وأضاف فرج الله، أن التفكير العلمي في المشروع بدأ على يد المهندس اليوناني المصري "دانينيوس" في أواخر عام 1952، وتم وضع خطط التنفيذ الفعلية في 9 يناير 1960، واستمرت الأعمال على مراحل متعددة حتى منتصف مايو 1964، حين تم تحويل مجرى النيل لأول مرة، ما مثل علامة فارقة في تاريخ النهر والدولة معًا، وفي أكتوبر 1967، ارتفع جسم السد إلى 172 مترًا، وهو الارتفاع الذي سمح بتكوين بحيرة ناصر، إحدى أكبر الخزانات الصناعية في العالم.
وتابع قائلًا: في 9 يناير 1969 انطلقت أول شرارة كهربائية من محطة السد العالي، عبر تشغيل 3 توربينات عملاقة، وفي يوليو 1970 اكتمل تشغيل المحطة بعد تزويدها بـ12 وحدة توليد كهربائي، ليبدأ السد في أداء دوره الاقتصادي الحيوي".
وأوضح فرج الله، أن المشروع كلف آنذاك حوالي 400 مليون جنيه، وأن السد شيد من مواد مصرية، حيث يتكون جسمه من ركام الجرانيت والرمال والطمى، وتحيط به طبقة صماء من الطين الأسواني، ويغلق السد مجرى النهر على امتداد 7 كيلومترات جنوب خزان أسوان القديم، ليحول المياه إلى قناة مكشوفة تتوسطها 6 أنفاق ضخمة، تصل إلى محطة الكهرباء، التي لا تزال حتى اليوم رمزًا للنهضة الصناعية والطاقة في مصر.
.jpg)
أروع اللحظات
ويتحدث إبراهيم حامد، وهو أحد أبطال ملحمة بناء السد العالي، عن واحدة من أروع لحظات التاريخ المصري الحديث، قائلًا: "أتذكر جيدًا، يوم تحويل مجرى نهر النيل، فهذا الحدث الفارق شهده الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بنفسه، وكان إلى جواره رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي نيكيتا خروتشوف، في مشهد يعكس حجم الإنجاز والدعم الدولي الذي حصلت عليه مصر رغم التحديات.
وأشار إبراهيم، إلى أن بناء السد العالي كان تحديا مصريا فرضته إرادة شعب قرر أن يصنع مستقبله بيديه، قائلًا: "لما البنك الدولي قرر يرفض تمويل المشروع بناءً على توصيات أمريكية، عبد الناصر خد القرار ببنائه بإرادة المصريين وبمشاركة آلاف العمال اللى ضحوا بحياتهم علشان الحلم يتحقق".
وقال إبراهيم، إن الدولة لم تغفل حينها عن دعم الروح المعنوية للعمال، فكانت تنظم حفلات فنية كبرى تحت عنوان "أضواء المدينة" داخل مواقع العمل بالسد، بحضور نخبة من رموز الفن المصري والعربي آنذاك، مثل فايزة أحمد، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، فتلك اللحظات، كانت تمثل تكريمًا لكل عامل ساهم في هذا المشروع القومي العظيم، وأضفت بعدًا إنسانيًا على ما بذله من جهد وتضحية.
وعن ذكرى اتمام بناء السد، يكشف الحاج إبراهيم حامد، عن أنه لن ينسى تاريخ 15 مايو من عام 1964، وهو يوم تحويل مجرى النيل بحضور الرئيس جمال عبدالناصر وزعيم الاتحاد السوفييتى نيكيتا خروشوف، مشيرا إلى أن السد العالى كان اختبارا لقوة وتحدى المصريين عقب قرار البنك الدولى برفض تمويل المشروع.
ولفت قائلا: فكرة تفجير الساتر الترابى لتحويل مجرى النيل، أوحت للمقدم باقى يوسف حنا بفكرة تفجير خط بارليف بالماء خلال حرب أكتوبر عام 1973.
ويروى الحاج لطفى يعقوب، تفاصيل مشاركته فى بناء السد قائلا: «كنا حاطين روحنا على إيدينا، وعمرى ما هنسى أصحابى إللى ماتوا قدام عنيا، عشان الحلم يكمل».
وتابع قائلا: «نسيت كل ما مريت به أنا وأسرتى من مصاعب فى لحظة تحويل مجرى النيل، وقتها شعرت أننى قدمت شيئا يفخر به أولادى بعد مماتى».
وكشف محمد عبدالحليم، أحد بناة السد العالى، أن 400 خبير شاركوا فى تشييد هذا المشروع الضخم، وكان العمل يجرى على قدم وساق بسبب الروح التى استمدوها من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
وأوضح: فى كل عام من ذكرى بناء السد يتذكر مدى المعاناة التى قضاها على مدار سنوات من أجل إنجاز هذا المشروع، قائلا: «ده حلمنا إللى تعبنا عشانه سنين».

وزير الري: بناة السد تمكنوا من ترويض الطبيعة الصخرية وبنوا علامة بارزة وخالدة فى تاريخ مصر
قال الدكتور هانى سويلم وزير الموارد المائية والري، إن مشروع إنشاء السد العالى يعد أعظم مشروع هندسى في القرن العشرين، وقد حمى مصر من الجفاف والفيضانات على مدى عشرات السنوات، مشيرًا لما يمثله هذا العمل الضخم من نموذج لقدرة الشعب المصرى على البناء والعمل عندما استطاعت السواعد المصرية بناء السد العالى بكل إصرار وعزيمة.
وأكد سويلم، أنه حريص على المتابعة الدائمة لمنظومة السد العالي وخزان أسوان، ومتابعة أعمال تطوير منظومة المراقبة والتشغيل بالسد العالى، والوقوف على حسن سير العمل من أعمال رصد المناسيب والتصرفات المائية المارة من السد العالى على مدار 24 ساعة، مشيدًا بفريق العمل المتميز الذي يدير هذا المنشأ الهام ومعربًا عن تقديره وشكره للعاملين بالسد العالى لعملهم الدائم بإخلاص وعدم إدخار أي جهد لخدمة بلادهم.
وأضاف وزير الري، أن الوزارة تقوم بتطوير وتحديث منظومة السد العالي وأجهزة الرصد والمتابعة تحتّ مظلة الجيل الثاني لمنظومة الري في مصر 2.0.
وتوجه وزير الري، بالتحية والتقدير لكل من شارك فى تحقيق هذه الملحمة التاريخية حينما كتب العاملون بهذا المشروع تاريخًا عظيمًا يروى لأجيال عديدة قادمة، عندما تمكنوا من ترويض الطبيعة الصخرية فى جنوب مصر ليبنوا السد العالي كعلامة بارزة وخالدة فى تاريخ مصر.

0 تعليق