يمثل قرار "الكابينيت" الإسرائيلي بتوسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة تحوّلًا نوعيًا في العقلية الحاكمة داخل إسرائيل، ويعكس قناعة راسخة بأن الوقت حان للانتقال من سياسة الاستنزاف إلى مرحلة الحسم، ولو على الورق.. في الجوهر، ليس هذا القرار سوى مظهر من مظاهر التناغم الكامل بين المؤسستين السياسية والعسكرية في الكيان المحتل، لكن ما يجري خلف الكواليس يكشف أن الهدف الحقيقي يتجاوز الأبعاد العسكرية والأمنية، ليتصل مباشرة ببقاء حكومة بنيامين نتنياهو واستمرار مشروعه السياسي الذي بدأ يتآكل أمام تحديات الداخل وضغوط الخارج.
تسعى حكومة نتنياهو، كما توضح التصريحات الصادرة عن أبرز المقربين منه، وفي مقدمتهم رون ديرمر، إلى استثمار الحرب كأداة سياسية بامتياز، فحين يقول ديرمر إن الحرب قد تستمر عامًا كاملًا، ويضع ذلك في سياق توقيع اتفاقيات سلام مستقبلية، فإنه يبوح ضمنيًا بأن استمرار المواجهة يخدم أهدافًا استراتيجية، على رأسها الحفاظ على السلطة، وإعادة تشكيل البيئة الإقليمية بطريقة تُبقي إسرائيل ممسكة بخيوط اللعبة. هذه الرؤية تُغذّيها اعتبارات تتعلق بمكانة نتنياهو، المهددة بانهيار الائتلاف الحاكم، ما لم يقدم له إنجازًا كبيرًا يسوق للرأي العام الإسرائيلي باعتباره نصرا مؤكدا.
في ضوء هذا التصور، تُصبح الأهداف المعلنة للحرب، وعلى رأسها "القضاء على حماس"، وسائل وليست غايات، حيث يتم التعامل مع غزة كساحة لتثبيت المعادلات، لا فقط كتهديد أمني، فالتوسيع الممنهج للعملية العسكرية ليس مجرد رد فعل، بل يعكس خطة مدروسة تستهدف السيطرة الفعلية والميدانية على القطاع، وفق النموذج الذي اتبعته إسرائيل في الضفة الغربية بعد عملية "السور الواقي"، وهو ما يُعبر عنه بوضوح "معهد القدس للاستراتيجيا والأمن"، الذي يُعد أحد أبرز مراكز التفكير المرتبطة مباشرة بمكتب رئيس الوزراء، فالمعهد لا يرى إمكانية لتحقيق الأمن الإسرائيلي إلا من خلال إعادة فرض السيطرة الكاملة على غزة، لا فقط من خلال عمليات عسكرية جوية أو محدودة، بل عبر وجود دائم على الأرض، بما يتجاوز أي صيغة للتهدئة أو تقاسم النفوذ.
ويُضاف إلى ذلك رؤية خطيرة يجري ترويجها ضمن أروقة الحكم في إسرائيل، مفادها أن أحد الحلول الاستراتيجية طويلة المدى يكمن في تشجيع "الهجرة الطوعية" لسكان القطاع إلى دول أخرى، في استعادة واضحة لمشاريع التهجير القديمة، لكن هذه المرة تحت عباءة "التحفيز الاقتصادي" أو "الفرار من الجحيم".
ومع كل ما يُروّج له من أهداف استراتيجية، فإن ترتيب الأولويات لدى الحكومة الإسرائيلية يكشف مفارقة واضحة: قضية الأسرى الإسرائيليين في غزة باتت في مرتبة متأخرة، على الرغم من كونها تمس الرأي العام الداخلي بقوة، فقد أظهرت مواقف العديد من المسؤولين – مثل سموتريتش – أن الإفراج عن الأسرى ليس الهدف الأهم، وأن التركيز يجب أن ينصب على القضاء على حماس كأولوية مطلقة، ولو جاء ذلك على حساب أرواح جنود وضباط ما زال مصيرهم مجهولًا، وهذا الترتيب يعكس مزيجًا من الحسابات السياسية الباردة والتقديرات الأمنية التي ترى أن أي تنازل في هذا الملف قد يمنح حماس ورقة تفوق سياسي في لحظة حساسة.
لكن ما يزيد المشهد تعقيدًا هو إدراك صناع القرار في تل أبيب أن هامش المناورة يضيق، وأن نافذة العمل العسكري شبه المطلق، والتي حظيت بها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، قد توشك على الإغلاق، خاصة مع التحركات الدبلوماسية الإقليمية والدولية المتسارعة، ومنها التصريحات الأخيرة الصادرة عن دونالد ترامب، والتي دعا فيها إلى إدخال المساعدات إلى غزة وتخفيف الضغط، تأتي بمثابة مؤشر على أن الغطاء السياسي لن يكون بلا حدود، خصوصًا مع اقتراب زياراته إلى السعودية وقطر والإمارات. هذا التطور يفرض على الحكومة الإسرائيلية تسريع خطواتها على الأرض قبل أن تفرض الوقائع السياسية قيودًا جديدة على تحركاتها.
إن القراءة المتأنية لمسار الحرب تكشف أن الاحتلال الإسرائيلي يتجه نحو مرحلة جديدة إما حسمًا ميدانيًا كاملًا باهظ الكلفة، أو الانخراط في ترتيبات سياسية معقدة، قد تنسف الخطوط الحمراء التي وضعتها لنفسها في بداية المواجهة، أما نتنياهو، فهو يواصل رهانه على الزمن، ويعتبر أن كل يوم إضافي في سدة الحكم هو فرصة لتعزيز موقعه، حتى لو كان الثمن مزيدًا من الدمار، ومزيدًا من العزلة، ومزيدًا من الانقسامات الداخلية التي بدأت تطفو على السطح.
في النهاية، قد تستطيع إسرائيل فرض وقائع جديدة بالقوة، وقد تحقق اختراقات ميدانية أو سياسية، لكنها لن تستطيع الهروب من حقيقة أن غزة، رغم كل ما جرى، لا تزال تُشكل تحديا وجوديًا للمنظومة الأمنية والعقائدية التي تتبنّاها الحكومات المتعاقبة في تل أبيب، أما النصر الذي يسعى إليه نتنياهو، فهو حتى اللحظة مجرّد وهم، يُسَوَّق في الإعلام، لكنه لم يتحقق على الأرض، ولن يتحقق ما دامت الأهداف مشوشة، والرؤية مشروطة ببقاء شخص واحد في موقع الحكم.
في ظل تزايد الضغوط الداخلية والانقسامات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، واحتمال تبدد الرهانات السياسية والعسكرية، لا يُستبعد تمامًا أن يتحوّل بنيامين نتنياهو إلى هدف لعمل عنيف قد ينهي مسيرته بشكل دموي، سواء عبر فعل فردي من داخل اليمين المتطرف الغاضب من أي تنازل محتمل في الحرب، أو عبر جهة خارجية تسعى لإرباك إسرائيل استراتيجيًا بقطع رأس قيادتها السياسية، خصوصًا وأن نتنياهو أصبح رمزًا للصراع ومصدرًا لفوضى ممتدة، ما يجعل غيابه المفاجئ – في حال حدوثه – عامل تفجير داخلي قد يعصف بالائتلاف الحاكم، ويطلق حالة انتقام أمني خارجي غير مسبوقة، ويترك إسرائيل في حالة تيه سياسي تُعيد صياغة توازنات الحكم والتحالفات الإقليمية بأكملها.
0 تعليق