في الأيام الأخيرة، عاد التصعيد العسكري بين الهند وباكستان ليتصدر مشهد جنوب آسيا، مع ما يحمله من توترات تاريخية متراكمة حول ملف كشمير المتنازع عليه.
التصعيد لم يكن مجرد رد فعل عسكري تقليدي، بل حمل إشارات خطيرة إلى انزلاق المنطقة مجددًا نحو حافة الهاوية، لا سيما بعد الهجوم الدموي الذي استهدف مجموعة من السياح الهندوس في الشطر الهندي من كشمير، والذي اتهمت نيودلهي جماعات مسلحة مقرها باكستان بالوقوف خلفه.
وقد مثل الهجوم لحظة انفجار جديدة في صراع لم يهدأ، سرعان ما اتخذ أبعادًا متشابكة تتجاوز حدود كشمير.
الردود المتبادلة بين الجانبين لم تقتصر على المستوى العسكري فحسب، بل امتدت إلى خطوات ذات أبعاد استراتيجية، مثل إغلاق المجال الجوي ووقف الرحلات، وقرار الهند خفض تدفق المياه من السدود باتجاه باكستان، في خطوة رآها كثيرون استخدامًا "لأسلحة غير تقليدية" كأداة ضغط في الصراع. هذه القرارات فاقمت مناخ العداء، وأظهرت هشاشة العلاقات الثنائية، وفشل المسارات الدبلوماسية في كبح جماح التصعيد، ما فتح الباب أمام تحولات غير محسوبة، قد تستغلها أطراف ثالثة تتربص بكل شرخ في الجدار السياسي.
في هذا السياق الملبد، تبرز الجماعات الإرهابية كأكثر الأطراف استفادة من حالة الفوضى والتصعيد، هذه التنظيمات، التي لطالما استثمرت في الصراعات الطائفية والسياسية بالمنطقة، تجد في التوتر بين الهند وباكستان فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها، وتجنيد عناصر جديدة تحت شعارات "التحرير" أو "نصرة المسلمين في كشمير".
فمع كل غارة أو قصف، تجد هذه الجماعات مادة دعائية جاهزة تعزز من سرديتها الجهادية، وتُضعف من شرعية الدولة، وتزيد من جاذبيتها في أعين الشباب الغاضب.
الأخطر أن ضعف الثقة بين الحكومات والشعوب، وتراجع فاعلية الدولة في المناطق الحدودية، يمنح الجماعات المتطرفة مساحة للتحرك، والتغلغل في المجتمعات المحلية، مدعية أنها البديل "الحامي" في ظل تقاعس الدولة أو انشغالها بالعدو الخارجي.
وهكذا، يتحول التوتر السياسي إلى بيئة خصبة لنمو الإرهاب، لا سيما حين تقف المؤسسات الرسمية عاجزة عن احتواء الغضب، أو تقديم رؤية عقلانية لحل النزاع. وفي النهاية، لا يكون الخاسر فقط هو الأمن القومي لكل من الهند وباكستان، بل الاستقرار الإقليمي ككل.
بيئة خصبة لنمو الجماعات الإرهابية
لا يمكن فهم تنامي الجماعات الإرهابية في جنوب آسيا بمعزل عن الجغرافيا المشتعلة التي ترسم حدود الهند وباكستان، وخصوصًا في إقليم كشمير، الذي يوصف بكونه "منطقة عسكرية مفتوحة". فالصراع الطويل حول هذا الإقليم لم يخلق فقط بؤرة توتر سياسي وعسكري، بل أرسى بيئة أمنية هشة وعميقة الجذور في الانقسام الطائفي والقومي، مما جعله ساحة مثالية للجماعات المتشددة التي تبحث عن ساحات قتال ذات شرعية شعبية أو دينية مزعومة.
منذ عقود، تحوّلت كشمير إلى منصة انطلاق للعديد من الجماعات المسلحة مثل "جيش محمد"، "عسكر طيبة"، و"حزب المجاهدين"، وهي تنظيمات وُجهت لها اتهامات متكررة بتلقي دعم مباشر أو غير مباشر من أطراف داخل الدولة الباكستانية أو عبر قنوات إقليمية معقدة.
هذه الجماعات لم تكن مجرد أدوات ضغط في لعبة الجغرافيا السياسية، بل استطاعت أن تنسج سردية جهادية ذات طابع محلي-عابر للحدود، تستقطب من خلالها مقاتلين شبابًا من داخل باكستان وخارجها.
وفي كل مرة تندلع فيها مواجهة بين الهند وباكستان، تُفتح نافذة واسعة أمام هذه الجماعات لاستغلال اللحظة، وتجديد حضورها الدعائي والتنظيمي. فالقصف المدفعي، والضربات الجوية، وما يصاحبها من ضحايا مدنيين وانتهاكات إنسانية، تُمثّل مادة خامًا تُستخدم لتأجيج المشاعر، وخلق خطاب يربط ما بين "المظلومية الإسلامية" و"ضرورة المقاومة المسلحة". وهكذا، يتحول التوتر السياسي إلى فرصة ذهبية لهذه التنظيمات لتعزيز شرعيتها المفترضة.
الأخطر أن هذه الجماعات لا تعمل في فراغ، بل تنشط وسط فراغات أمنية حقيقية، وضعف ثقة بين السكان المحليين والسلطات الرسمية.
وعندما تغيب التنمية، وتُهمّش المناطق الحدودية، يجد التطرف أرضًا خصبة للنمو، وتتحول المخيمات والمدارس والمساجد إلى منصات تعبئة فكرية وأمنية.
وعليه، فإن استمرار النزاع بين الهند وباكستان دون تسوية سياسية عادلة يُعد بمثابة وقود دائم لماكينة الإرهاب، ويهدد بتحويل جنوب آسيا إلى واحدة من أكثر بؤر العنف والتطرف قابلية للانفجار في العالم.
من كشمير إلى الحدود الأفغانية.. اتساع الفوضى
في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين الهند وباكستان في كشمير، تتسع رقعة الفوضى لتشمل الحدود الباكستانية-الأفغانية، وهي منطقة لطالما عانت من فراغ أمني وتداخل نفوذ الجماعات المسلحة. فالتصعيد في كشمير لا يُستنزف عسكريًا فحسب، بل يُضعف قدرة الدولة الباكستانية على ضبط جبهاتها الأخرى، ما يمنح الحركات المتطرفة مثل "تحريك طالبان باكستان" وتنظيم "داعش – ولاية خراسان" هامش حركة أوسع لاستعادة مواقعها وتنفيذ هجمات مباغتة، خصوصًا في المناطق القبلية التي تعاني من ضعف التنمية وغياب الرقابة الأمنية الكافية.
وتزداد تعقيدات المشهد مع ضعف التنسيق الأمني والاستخباري بين إسلام أباد وكابول، حيث لا تزال الثقة منعدمة بين الطرفين رغم تصريحات التعاون.
وفي ظل هذا الضعف، تتحول مناطق واسعة على طول الحدود إلى ممرات آمنة لتهريب السلاح والمسلحين، وتوفر هذه الفجوات أرضًا خصبة لتكاثر الجماعات المتشددة، التي تستثمر في استقطاب الشباب العاطلين عن العمل أو الفئات المهمشة، خصوصًا من اللاجئين والنازحين المتأثرين بالصراعات المتداخلة في المنطقة.
عودة "طالبان" إلى السلطة في أفغانستان أعادت خلط الأوراق بشكل كبير، فرغم تعهداتها بعدم السماح باستخدام أراضيها لمهاجمة الدول المجاورة، إلا أن واقع الأرض يقول غير ذلك. فحدودها الطويلة والوعرة مع باكستان، وصعوبة مراقبتها بشكل كامل، تجعل منها ممرًا غير رسمي لنشاط الجماعات المتطرفة.
وهناك مؤشرات متزايدة على أن بعض الفصائل داخل "طالبان" الأفغانية تتغاضى، إن لم تكن تتعاون، مع "طالبان باكستان"، انطلاقًا من الانتماء المشترك للمدرسة الديوبندية والأصول القبلية المتشابكة.
هذا التقاطع بين كشمير والحدود الأفغانية يخلق دائرة توتر مزدوجة، تُنهك الدولة الباكستانية من الداخل، وتفتح جبهات متعددة أمامها في وقت واحد.
فبينما توجه الدولة جهودها نحو الصراع التقليدي مع الهند، تتسلل التنظيمات المتشددة من الخاصرة الغربية، مستفيدة من الانشغال العسكري ومن هشاشة الدولة في أفغانستان.
وهكذا يتحول المشهد إلى مزيج من النزاع الإقليمي والتطرف العابر للحدود، في معادلة تهدد أمن جنوب آسيا بأكمله.
استثمار إعلامي وإيديولوجي للتوتر
لم تعد الجماعات الإرهابية تعتمد فقط على السلاح والكمائن في تحقيق أهدافها، بل أصبحت تُتقن استخدام الفضاء الإعلامي كأداة موازية بل وفاعلة في معركتها. فمع كل تصعيد في كشمير، تُطلق هذه الجماعات سيلاً من الرسائل الدعائية الموجّهة، مستخدمة مشاهد القصف، الضحايا، وتدمير البنية التحتية كمواد عاطفية تعبّئ بها مناصريها وتستقطب بها عناصر جديدة.
وتنتشر هذه المواد بسرعة عبر التطبيقات المشفّرة مثل "تلجرام" و"سيجنال"، وأحيانًا عبر الإنترنت المظلم، حيث لا رقابة ولا تعقّب، ما يسمح بخلق بيئة تعبئة وتحريض دون حسيب أو رقيب.
هذه الآلة الإعلامية لا تكتفي بسرد المظلومية، بل تعيد تشكيل الأحداث لتتناسب مع سردياتها العقائدية، إذ تصور التدخلات العسكرية الهندية على أنها "حرب على الإسلام"، وتُظهر الجماعات المسلحة كـ"مقاومة شريفة" تقف وحدها في وجه العدوان. هذا التأطير العاطفي – الديني يمنحها شرعية رمزية في أوساط المجتمعات المحبطة والغاضبة، ويعزز صورتها كفاعل بديل عن الدولة، خصوصًا في المناطق التي تعاني من التهميش والفراغ الخدمي.
الأخطر أن هذه الجماعات باتت تقدم نفسها كـ"حامي الأمة"، في مقابل ما تصفه بـ"خيانة النخب" و"عجز الحكومات" عن حماية المسلمين، لا سيما في كشمير والمناطق الحدودية. هذا الخطاب لا يمر فقط عبر القنوات الجهادية التقليدية، بل يتسلل أيضًا إلى منصات شعبية ومنتديات دينية، مما يضاعف من تأثيره الثقافي والنفسي. وتُظهر استطلاعات غير رسمية في بعض المناطق الحدودية تأييدًا شعبيًا متزايدًا لبعض رموز تلك الجماعات، ما يعكس مدى تغلغل الخطاب الإعلامي المتطرف في الوعي العام.
وفي غياب إعلام رسمي مرن وقادر على التفاعل الفوري، تبقى الرواية الجهادية هي الصوت الأعلى في أوقات الأزمات، الأمر الذي يُضعف من سلطة الدولة المركزية، ويزيد من هشاشة سيطرتها على أطرافها. كما تتراجع ثقة المجتمعات المحلية بالمؤسسات الوطنية، في مقابل تنامي الاعتماد على الجماعات المسلحة كمصدر للحماية أو الانتقام. وهكذا، يتحول التوتر الإقليمي إلى رأس مال رمزي للجماعات الإرهابية، تقتات عليه وتتوسع من خلاله.
إضعاف فرص مكافحة الإرهاب الإقليمي
كل تصعيد جديد بين الهند وباكستان لا ينعكس فقط على الأمن الإقليمي، بل يوجه ضربة قاسية لجهود مكافحة الإرهاب التي تتطلب قدرًا عاليًا من التنسيق والتبادل المعلوماتي.
ففي اللحظات التي يُفترض أن تتوحد فيها الجهود لمطاردة الخلايا النائمة وتعقب تمويل الجماعات المسلحة، تنكفئ كل دولة إلى داخلها، وتُغلق قنوات الاتصال الاستخباراتي، مما يخلق فراغًا تتسلل منه التنظيمات المتطرفة لإعادة التموضع أو التوسع في مناطق رخوة أمنيًا.
هذا الجمود في التعاون الثنائي بين نيودلهي وإسلام آباد لا يسمح فقط بمرور العناصر الإرهابية عبر الحدود دون ردع، بل يضعف أيضًا فاعلية أي تحالفات أمنية إقليمية كان يمكن أن تُبنى لمواجهة التطرف العابر للحدود. فمثلًا، أي جهد مشترك لتأمين الحدود الجبلية أو رصد التحويلات المالية المشبوهة يتعطل كليًا في ظل الأجواء العدائية، ما يفتح المجال أمام الكيانات الجهادية لتوسيع شبكاتها، خصوصًا في مناطق مثل كشمير والحدود الأفغانية، حيث الدولة ضعيفة والحضور الأمني متذبذب.
من جهة أخرى، فإن الانشغال بالمواجهة التقليدية — سواء على الأرض أو في التصريحات الإعلامية — يضع مكافحة الإرهاب في مرتبة ثانوية من الأولويات، وهو ما تستغله الجماعات المتشددة لشن هجمات مباغتة، أو إعادة إنتاج خطابها الجهادي عبر سردية "العدوان الهندوسي" أو "التخاذل الحكومي".
هذا الانشغال يسمح ببناء بيئات حاضنة جديدة في القرى النائية، والمخيمات، والمناطق غير المحكومة، ويجعل من كل تصعيد فرصة ذهبية لتوسيع قواعد الدعم والتمويل والتجنيد.
ولعل ما يفاقم هذه الأزمة هو القلق الدولي المتنامي من انفلات الوضع، خصوصًا لدى القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، التي تخشى من انزلاق الوضع نحو مواجهة عسكرية شاملة بين قوتين نوويتين. هذا القلق لا ينبع فقط من خطر الحرب، بل من احتمال تحوّل جنوب آسيا إلى نقطة ارتكاز جديدة للتنظيمات الإرهابية العالمية، التي قد تستفيد من الفراغ الأمني لتأسيس قواعد جديدة وتوسيع نفوذها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. فبينما يتراجع التنسيق بين الدول، تتقدم الجماعات المتشددة خطوة إضافية نحو المشهد الإقليمي.
لحظة حاسمة لإعادة ضبط المسارات
ما يجري في جنوب آسيا يتجاوز حدود التوتر التقليدي بين دولتين متجاورتين، ليصل إلى مفترق طرق حاسم يُعيد تشكيل ملامح الأمن الإقليمي لعقود قادمة. لم تعد الأزمة الحالية بين الهند وباكستان مجرد نزاع جغرافي على كشمير أو خلافات مائية، بل تحوّلت إلى ساحة اختبار حقيقية لقدرة المنطقة على تفادي الانزلاق إلى الفوضى، أو على الأقل احتواء تداعياتها.
هذا التحول فرض معادلة جديدة، حيث أصبحت الجماعات الإرهابية لاعبًا غير مباشر لكنه بالغ التأثير في تحديد مآلات المشهد.
لقد برهنت التنظيمات الجهادية في أكثر من مناسبة على قدرتها على توظيف النزاعات السياسية والمواجهات العسكرية لخدمة أجنداتها، سواء عبر التجنيد العاطفي، أو الاستثمار في معاناة المدنيين، أو استغلال التراجع المؤقت في الرقابة الأمنية.
وفي ظل الغياب شبه الكامل لأي تنسيق استخباراتي حقيقي بين نيودلهي وإسلام آباد، تبدو هذه الجماعات وكأنها تتنفس مجددًا، وتستعد للعودة بوجوه أكثر عنفًا واستراتيجيات أكثر مرونة، وبخاصة في المناطق الحدودية الرخوة.
لذلك، فإن التعاطي مع هذا التصعيد لا ينبغي أن يبقى أسيرًا لردود الفعل العسكرية أو الخطابات القومية المتشنجة. فكل غارة جوية، وكل مناوشة مدفعية، قد تلهب المشاعر المحلية، لكنها تُربك أيضًا جهود مواجهة خطر أعمق وأكثر دهاءً، يتمثل في الإرهاب العابر للحدود. إن الوقت الراهن يتطلب مقاربات جديدة تتجاوز ثنائية العدو والصديق، وتنتقل إلى طاولة حوار إقليمي تشاركي، تضع في أولويتها الأمن الجماعي، وليس تصفية الحسابات القديمة.
في هذا السياق، تصبح الدعوة إلى إعادة ضبط المسارات السياسية والأمنية أكثر من ضرورة، بل شرطًا أساسيًا لتفادي انفجار شامل لا يخدم إلا المتطرفين. إن الإقرار بأن الإرهاب لا يزال حاضرًا، ويتربص بأي ثغرة، يجب أن يكون مدخلاً لتجاوز لحظة الانفعال إلى منطق الحكمة والمسؤولية. فاستمرار التوتر دون أفق للتسوية ليس فقط خطرًا على الهند وباكستان، بل تهديد صريح للاستقرار في كامل جنوب آسيا، وربما أبعد من ذلك.
0 تعليق