مع تطبيق الرئيس دونالد ترامب تخفيضات جذرية فى تمويل العلوم والبحوث الأمريكية، تنتهز دول العالم الفرصة لجذب الباحثين والأكاديميين الأمريكيين المحبطين. بعد أن كانت تُعتبر رائدة عالميا فى الابتكار العلمي، تشهد الولايات المتحدة الآن هجرة جماعية للمواهب مدفوعةً بسياسات تقييدية، وتخفيضات فى التمويل، وبيئة معادية للمهاجرين بشكل متزايد. دفعت هذه التطورات الدول المنافسة إلى اتخاذ خطوات استباقية لاستقطاب باحثين من الطراز الأول من أمريكا، مستغلةً ما يُوصف بـ"فرصة نادرة لاكتساب العقول".
لعقود، كانت الولايات المتحدة نقطة جذب لألمع العقول فى العالم، حيث وفرت ميزانيات بحثية لا مثيل لها، ومرافق متطورة، ورواتب تنافسية. فى عام ٢٠٢٤، أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من تريليون دولار - أى ما يعادل ٣.٥٪ تقريبًا من ناتجها المحلى الإجمالى - على البحث والتطوير. مع مساهمة الحكومة بنحو ٤٠٪ من هذا الإنفاق، لطالما كانت البلاد فى طليعة التقدم العلمى والتكنولوجي. إلا أن سياسات إدارة ترامب، بما فى ذلك خفض التمويل الفيدرالى للمؤسسات العلمية وتقييد مواضيع البحث، قد عرّضت هذه القيادة للخطر.
حملة عالمية
نتيجةً لذلك، تتنافس دولٌ حول العالم الآن على استقطاب الباحثين الأمريكيين، مقدمةً لهم التمويل والحرية الأكاديمية وتحسين ظروف المعيشة، فى محاولةٍ لوقف هجرة الأدمغة. على سبيل المثال، التزم الاتحاد الأوروبى مؤخرًا بمبلغ إضافى قدره ٥٠٠ مليون يورو (٥٥٦ مليون دولار) على مدى العامين المقبلين لجعل القارة وجهةً أكثر جاذبيةً للباحثين. ورغم أن هذا الاستثمار متواضعٌ مقارنةً بميزانيات الولايات المتحدة، إلا أنه يعكس إدراكًا متزايدًا بأن هذه لحظةٌ حاسمةٌ لإعادة تشكيل المشهد البحثى العالمي.
وتحذو دولٌ أخرى حذوها بمبادراتٍ مُستهدفة. فقد تعهدت فرنسا بتقديم ١١٣ مليون دولار لجذب الباحثين الأمريكيين، كما قدمت مؤسساتٌ مثل جامعة إيكس مرسيليا ما يصل إلى ١٦.٨ مليون دولار لتمويل المواهب الأجنبية. خصصت إسبانيا ٤٥ مليون يورو (٥٠ مليون دولار) لجذب الباحثين، بينما يقدم برنامج كتالونيا ٣٤ مليون دولار لرعاية علماء أمريكيين ذوى كفاءة عالية.
الجاذبية المالية
فى حين أن الرواتب فى أوروبا أقل عمومًا من تلك فى الولايات المتحدة، إلا أن شبكات الأمان الاجتماعى القوية فى القارة تُسهم فى تعويض هذا الفارق. فالرعاية الصحية والتعليم المجانيان وانخفاض تكاليف المعيشة فى بعض المناطق تجعل أوروبا خيارًا جذابًا للباحثين الباحثين عن الاستقرار وجودة الحياة. فى فرنسا، يمكن للباحث أن يتوقع دخلًا شهريًا يقارب ٣٦٠٠ يورو قبل الضرائب، مقارنةً براتب شهرى يبلغ حوالى ٦٦٨٥ دولارًا أمريكيًا لزميل ما بعد الدكتوراه فى الولايات المتحدة. على الرغم من فجوة الرواتب، تُعتبر المزايا الاجتماعية السخية التى تقدمها الدول الأوروبية عامل جذب رئيسي، لا سيما لمن يسعون إلى توازن أفضل بين العمل والحياة والحرية الأكاديمية.
نداءات وطنية
بذلت عدة دول جهودًا خاصة للتواصل المباشر مع الباحثين الأمريكيين، مؤكدةً على الحريات السياسية والأكاديمية التى تتعرض لتهديد متزايد فى الولايات المتحدة. وجهت الدنمارك نداءً للباحثين الأمريكيين مؤكدةً دعمها للعلم والحقائق، حتى أنها استخدمت أغنية "وُلِد فى الولايات المتحدة الأمريكية" لبروس سبرينغستين فى حملة ترويجية. وحثّ وزير التعليم السويدي، يوهان بيرسون، الباحثين الأمريكيين على التفكير فى الانتقال إلى السويد، مشيرًا إلى أن السويد تُقدّر الحرية الأكاديمية والنزاهة العلمية.
تُقدّم النرويج ١٠٠ مليون كرونة (٩.٦ مليون دولار) لتمويل الباحثين الأمريكيين والدوليين، مُدركةً الضغط المتزايد على الحرية الأكاديمية فى الولايات المتحدة. وتُخطّط المملكة المتحدة لتخصيص ٥٠ مليون جنيه إسترلينى (٦٦ مليون دولار) لنقل العلماء الدوليين، بينما تُستثمر كندا فى جهود التوظيف، مثل برنامج شبكة الصحة الجامعية الذى تبلغ قيمته ٢١.٥ مليون دولار لاستقدام ١٠٠ عالم من الولايات المتحدة.
وأعلنت دول أخرى، منها أستراليا والبرتغال والنمسا، عن برامج مماثلة لدعم الباحثين الذين يشعرون بخيبة أمل من سياسات إدارة ترامب. على سبيل المثال، أطلقت الأكاديمية الأسترالية للعلوم حملة بحث عالمية عن المواهب لجذب ألمع العقول المُغادرة للولايات المتحدة، مُشددةً على الفرصة الفريدة لتأمين مواهب بحثية رفيعة المستوى.
تزايد الاستياء
كشف استطلاع رأى أجرته مجلة "نيتشر" فى مارس أن ٧٥٪ من طلاب الدكتوراه وباحثى ما بعد الدكتوراه فى الولايات المتحدة يُفكّرون فى مغادرة البلاد بسبب سياسات إدارة ترامب. يشعر الكثيرون بقلق بالغ إزاء تآكل الحرية الأكاديمية والتدخل السياسى فى البحث العلمي. وقد أدى تغيير الأولويات فى ظل الإدارة الحالية، إلى جانب حالة عدم اليقين المحيطة بسياسات الهجرة، إلى شعور العديد من الباحثين الأمريكيين بخيبة الأمل وعدم التقدير.
قد يكون للتنافس العالمى المتزايد على المواهب الأمريكية تداعيات طويلة المدى على البحث والابتكار الأمريكيين. فبينما تواجه الولايات المتحدة احتمال فقدان بعضٍ من ألمع عقولها، تُهيئ دول العالم نفسها للاستفادة من هجرة المواهب هذه. ويعتمد نجاح الولايات المتحدة فى استعادة مكانتها كقائدة فى مجال البحث العالمى على قدرتها على عكس هذه الاتجاهات وإعادة إرساء بيئة تُقدّر البحث العلمى والحرية الأكاديمية.
فى غضون ذلك، تُهيئ دول فى أوروبا وآسيا والأمريكيتين نفسها لتصبح مراكز عالمية جديدة للبحث، مُقدمةً التمويل والحرية الأكاديمية وظروف معيشية مُحسّنة، فى محاولة لجذب المواهب الأمريكية المُهجّرة. وبينما يتكيف مجتمع البحث الدولى مع هذا الواقع الجديد، يبقى أن نرى كيف ستتغير الديناميكيات العالمية للابتكار العلمى فى السنوات القادمة.
*نيويورك تايمز
0 تعليق