في مشهدٍ يثير الكثير من الأسئلة، الْتقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في باحة الفاتيكان، في لحظة من المفترض أن تكون مهيبة، وسط مراسم جنازة البابا الراحل. بالطبع، إذا كنتَ تعتقدُ أن السياسة والدين لا يلتقيان في مثل هذه اللحظات، فأنتَ ربما لم تشاهد بعد “مسرحية الفاتيكان” !
الجنازة، لحظة يُفترض أن تُنثر فيها الزهور على روح البابا، لكن على ما يبدو، كان هناك برنامج خاص لهذه المناسبة: “كيف نجعل الموت حدثًا سياسيًا بامتياز” !
صورة ترامب وزيلينسكي لحظة تم تجميدها في الزمن، لتكشف لنا كيف يمكن تحويل لحظات الموت والوداع إلى منصة عرض سياسي مُتقن، حين تتلاشى الإيديولوجيات لتظهر الحقيقة الوحيدة في هذا المشهد: لم يحضر الرئيسان للمشاركة في مراسم وداع، بلْ ليُقدّمَا عَرْضًا هزليًا من نَوع جديد.
1- في مشهدٍ استثنائي اجتمعت فيه السياسة مع الرمزيات الدينية، التقطت عدسات الإعلام صورة جمعت دونالد ترامب وفولوديمير زيلينسكي في باحة الفاتيكان، وسط مراسم جنازة البابا الراحل. لم تكن الصورة مجرد توثيق لحضور شخصيتين سياسيتين بارزتين، بقدر ما جاءت محمّلة بشحنات رمزية كثيفة، لأنها تكتب مشهدا مصغرا عن أوضاع العالم المضطربة.
2- اختيار الفاتيكان مسرحا لهذا اللقاء العابر لم يكن حدثا ثانويًا. هذا الفضاء، الذي يمثل قمة السلطة الروحية الكاثوليكية، احتضن لقاء الرجلين داخل طقس جنائزي، وكأن الصورة توحي بأن السياسة، مهما بلغت قسوتها، تجد نفسها أحيانا مضطرة للانحناء أمام رمزية الموت الكبير.
3- كان لوقع المكان أثر واضح على المشهد: الألوان الحيادية للمعمار، الأبيض الحجري والذهبي الخافت، عززت حالة الصمت المهيب، مما جعل الشخصيتين تبدوان كأنهما خارج الزمن، مجرّدين من خطب السياسة المعتادة، عالقين في منطقة رمادية بين العزاء والمناورة.
4- لغة الجسد كانت أكثر بلاغة من أية كلمات قيلت أو لم تُقل. ترامب، بجسده الصلب وانتصاب كتفيه، بدا كمن يحاول أن يعيد فرض نفسه رمزًا للهيبة، بينما زيلينسكي بحركاته الأقرب إلى الانكماش الخفيف، أظهر توترًا داخليًا ممزوجًا بحاجة ملحّة للتموضع بثقة أمام رجل لا يثق به تماماً.
5- عدم تبادل الابتسامات أو حتى النظرات الحميمية كشف عن طبيعة العلاقات الهشة. بدا أن كلا منهما يدرك تماما ما يمثله الآخر: ترامب يمثل احتمال تراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا بعدما عاد إلى الحكم، وزيلينسكي يمثل عبئا دبلوماسيًا مكلفًا قد يتنصل منه ترامب في أية لحظة.
6- التوقيت كان فخًا ذكيًا. جنازة البابا ــ لحظة حداد كوني ــ ألزمت الجميع بقواعد الصمت والوقار، مما جعل كل حركة، وكل نظرة، وكل ميلان جسد، يتحول إلى خطاب ضمني، أشد وقعًا من التصريحات السياسية الفارغة.
7- حضرت رمزية الموت بقوة: ليس فقط موت بابا، بل ربما إشارة رمزية إلى أفول حقبة ما بعد الحرب الباردة، وإلى تحلل المنظومة الدولية القديمة، التي مازالت الشخصيتان تحاولان بشتى الطرق إنقاذ مصالحهما في ظلالها المهترئة.
8- صورة ترامب وزيلينسكي تحت قبب الفاتيكان ذكّرت بالعصور التي كان فيها الملوك والأباطرة يتفاوضون في الكنائس الكبرى تحت نظر الرّب… لكنها أيضًا تفضح كيف أن سياسة اليوم أصبحت أكثر براغماتية، وأكثر استعدادًا لاستخدام الدين والرمزيات لأغراض سلطوية خالصة.
9- تجليّات الضوء والظل والرخام للطبيعة المعمارية للفاتيكان، أعطت للصورة انطباعًا دراميًا إضافيًا: كأن كلًّا منهما يقف نصفه في النور ونصفه في الظل، مما يرمز إلى الازدواجية الكامنة في مواقفهما السياسية: دعم معلن، ومساومات خفية.
10- ما بدا لقاءً بروتوكوليًا صامتًا، كان في العمق عملية تفاوض بصري معقدة: زيلينسكي يحاول الإمساك بما تبقى من الدعم الدولي، وترامب يلمح إلى قدرته على رسم سياسات المستقبل الأمريكي تجاه أوروبا بعدما عاد إلى البيت الأبيض… ومن قلب الفاتيكان.
11- تعامل الإعلام مع الصورة بوصفها حدثا مستقلا بذاته. طريقة إبراز اللقطة، العناوين المصاحبة لها، وتحليلات المعلقين، كلها أجمعت على أن اللقاء كان رسالة بحد ذاته، موجهة لعواصم القرار الكبرى في العالم.
12- من ناحية سيميائية، فإن ملابس الرئيسين لعبت دورًا مهمًا في بناء المعنى البصري: ترامب ببدْلته الرسمية الداكنة يشير إلى السلطة التقليدية، وزيلينسكي بزيه العسكري الرمزي يعيد تأكيد صورة “الرئيس-المقاتل” حتى في أحزن اللحظات.
13- الفاتيكان، بحياده الظاهري وسلطته الروحية العتيقة، قدم نفسه مرة أخرى باعتباره أرضية للقاء الأضداد. عزز هذا المشهد فكرة أن الكيانات العابرة للسياسة، مثل الفاتيكان، تظل قادرة على أداء أدوار خلفية في المشهد العالمي المضطرب.
14- الرأي العام العالمي قرأ الصورة بعيون مختلفة: البعض رآها بداية “تطبيع بارد” بين ترامب وأوكرانيا، والبعض الآخر اعتبرها مجرد لفتة بروتوكولية لن تغير شيئًا من الحقائق الكبرى على الأرض.
15- ومع ذلك، فإن هذه الصورة كشفت أن أزمات العالم الكبرى لا تتوقف عند حدود المعارك العسكرية، بل تمتد إلى حروب الرموز والصور: لقاء في جنازة يصبح أداة ضغط، مصافحة صامتة تتحول إلى ورقة مساومة في دهاليز السياسة الدولية.
16- لا تعترف السياسة بالصدف. اختيار ترامب لالتقاط صورة مع زيلينسكي في هذا الظرف كان رسالة إلى الناخب الأمريكي أولا: بأنه مازال فاعلا في القضايا الدولية الكبرى، وقادرًا على إعادة صياغة التحالفات متى شاء.
17- زيلينسكي من جهته، لم يكن يملك ترف تجاهل هذه اللحظة. هو بحاجة إلى أن يبدو في صورة واحدة مع العائد إلى قيادة البيت الأبيض، لأن معركته مع روسيا ليست فقط عسكرية، بل هي أيضًا معركة بقاء دبلوماسي على المسرح الدولي.
18- هكذا، حين ينظر المؤرخون يوما إلى هذه الصورة، قد لا يقرؤونها بوصفها لحظة بروتوكولية هامشية، بل علامة فارقة في مسار عالمٍ يتشكل على أنقاض التوازنات القديمة، ويتلمس طريقه وسط ركام الأوهام الكبرى، صوب نظام دولي جديد لا يزال غامض الملامح، مُتقلب الهوية.
19- في المسافة المحسوبة بين الجسدين، في انحناءة الرأس الخفيفة، في الأيدي المشدودة إلى الجسد أكثر من استعدادها للانفتاح. كل شيء في هذه الصورة يوحي بأن النظام الدولي لم يعد يُدار بالكلمات، بل بالإيماءات المتوترة والصمت المشحون. إنها صورة عالم يقف على برزخ هشّ، يتأرجح بين احتمالات الانهيار وفرص الولادة العسيرة.
20- أخيرا، لعل أعظم ما تخبئه هذه الصورة ليس ما يظهر للعين المجردة، وإنما ما توحي به من صمتٍ كثيفٍ يعلو على الكلمات. في حضرة الموت، تذوب الأقنعة، ويطلّ العالم على هشاشته العارية: قادةٌ يقفون على تخوم العبث، وشعوبٌ تبحث عن معنى في زمن فَقدَ بوصلته.
بهذا المعنى، لا تُوثّق الصورة لحظة بروتوكولية باردة، لكنها تفتح كُوّةً على سؤال الوجود ذاته: كيف تولد شرائع جديدة من رماد الصلوات وأشلاء التحالفات؟
وبينما كان الحضور مغمورا بهيْبة المكان، سطعت الأضواء على السياسة أكثر من أي شيء آخر: هل كان المشهد يهدف إلى تكريم البابا؟
ربما.
هل كان يهدف إلى منحنا درسًا في كيفية إبراز الجوانب السياسية على حساب اللحظات الإنسانية؟
أكيد.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
0 تعليق