تتصدر قضية إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة واجهة المشهد الدولي، بوصفها واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وتشابكًا في الصراع القائم، فرغم الإجماع العالمي على ضرورة تلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين، فإن المساعدات باتت أداة تستخدم في لعبة سياسية أكبر من مجرد توفير الغذاء والدواء.
التصريحات الأخيرة الصادرة عن بريطانيا وفرنسا وكندا، والتي تطالب بوقف الحرب والسماح الفوري بدخول المساعدات الإنسانية، تشير إلى تغير نسبي في لهجة الخطاب الغربي، وتدل على إدراك متزايد لحجم الكارثة الإنسانية في القطاع، ولكنها في ذات الوقت، تكشف عن حدود ما يمكن أن تفعله هذه الدول دون أن تصطدم مباشرة بالتحالفات الاستراتيجية المعقدة، وفي مقدمتها العلاقة مع إسرائيل.
الجدل الدائر لا يتعلق فقط بكمية المساعدات أو نقاط إدخالها، بل يمتد إلى عمق أكبر: من يسيطر عليها؟ كيف يتم توزيعها؟ ومن يضمن ألا تُستخدم لتحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية من أحد الطرفين؟ في هذا السياق، الكيان الإسرائيلي يدعي أنه حريص على فرض رقابة مشددة على دخول المواد الإنسانية، خشية من أن تستخدمها حماس لتعزيز قدراتها. في المقابل، ترى دول العالم والمنظمات الإنسانية أن ما يحدث تجاوز كل الاعتبارات الأمنية وأصبح جريمة أخلاقية في حق أكثر من مليوني مدني.
رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التلويح الغربي بالعقوبات أو تقليص التعاون، بحجة عرقلة إدخال المساعدات، يعكس رؤية إسرائيل بأن المساعدات يجب أن تُدار بشروطها الأمنية وليس وفق الضغوط الدولية، فنتنياهو يعتبر أن تسهيل إدخال المساعدات في ظل استمرار وجود حركة حماس يُعطي الأخيرة "جائزة مجانية"، ويرى أن انتهاء الحرب يجب أن يكون مشروطًا بنزع سلاح غزة وعودة الرهائن.. هذا الموقف يعقد المشهد الإنساني ويحول المساعدات من ضرورة إنسانية ملحة إلى ورقة ضغط ضمن موازين القوة في الميدان.
وفي المقابل، يظهر المجتمع الدولي مترددًا بين استحقاقات القانون الدولي والتزامات حقوق الإنسان من جهة، والحسابات الجيوسياسية والعسكرية من جهة أخرى. الدول الغربية تدرك أن استمرار تعقيد إدخال المساعدات قد يقوّض مصداقيتها أمام شعوبها، وقد يعرّضها لضغوط داخلية متصاعدة، خصوصًا مع تنامي الأصوات الحقوقية والإعلامية المنددة بـ"صمت" أو "تواطؤ" الحكومات مع ما يجري على الأرض، إلا أن هذه الدول لم تتخذ بعد إجراءات حاسمة مثل فرض عقوبات حقيقية أو تجميد التعاون العسكري.
بالتالي، فإن معركة المساعدات ليست معزولة عن سياق الصراع، بل تحولت إلى واحدة من أدواته.. إسرائيل تستخدمها لتحقيق مكاسب أمنية، والغرب يستخدمها للضغط المحدود، وحماس تحاول توظيفها لتثبيت صمودها الشعبي، أما المدنيون، فهم الحلقة الأضعف، يدفعون الثمن الأكبر بينما تُدار حياتهم – أو موتهم – على طاولة تفاوض غير عادلة.
إن استمرار حرمان سكان غزة من المساعدات الضرورية يفضح زيف الادعاءات الدولية حول أولوية حقوق الإنسان، ويكشف أن القيم التي تتغنى بها الدول الكبرى لا تزال خاضعة لاختبار مزدوج، حيث تفقد بريقها عند أول تقاطع مع المصالح السياسية والعسكرية.
أكرر أن الادعاءات الدولية حول أولوية الإنسان وحقوقة فضحتها أحداث غزة المأساوية، حيث أسقطت الشعارات الغربية عن القيم الإنسانية والعدالة تحت وطأة الحسابات السياسية والمصالح الاستراتيجية، فالعالم الذي يزعم الدفاع عن القانون الدولي وحقوق المدنيين، يقف عاجزًا – أو متواطئًا – أمام مشاهد المجازر والتجويع والتدمير الممنهج في قطاع محاصر، المساعدات الإنسانية، التي يفترض أن تكون التزامًا أخلاقيًا غير قابل للتفاوض، تحوّلت إلى ورقة مساومة، تُقيّد وتُعرقل تحت ذرائع أمنية أو توازنات دبلوماسية، هذا الانكشاف الأخلاقي لا يفضح ازدواجية المعايير فحسب، بل يؤكد أن أولويات القوى الكبرى لا تبدأ من الإنسان، بل تنتهي عنده حينما يتعارض وجوده مع مصالحها أو تحالفاتها.
لا أحد يملك أن يزايد على دور مصر في ملف المساعدات الإنسانية إلى غزة، فهي الدولة الوحيدة التي أبقت معبر رفح شريانًا مفتوحًا للحياة في وجه الحصار والدمار.. مصر لم تكتفِ بإرسال القوافل الإغاثية الكبرى، بل حشدت كل أجهزتها المدنية والعسكرية لتأمين تدفق الإمدادات الطبية والغذائية، وسط ظروف أمنية وإنسانية شديدة التعقيد، كما تحمّلت وحدها عبء التنسيق مع الأطراف الدولية والمنظمات الإنسانية، وتحملت في الوقت ذاته ضغوطًا سياسية وأمنية جسيمة، دون أن تتراجع عن موقفها الأخلاقي الثابت، لقد اختار الرئيس عبدالفتاح السيسي أن تكون مصر صوت الضمير في لحظة صمت دولي مخزٍ، ووقف على خط النار سياسيًا وإعلاميًا وإنسانيًا، ليؤكد أن البعد الإنساني ليس ورقة في مفاوضات، بل التزام لا يسقط بالتقادم ولا يقبل المساومة.
0 تعليق