رغم قناعة كثير من المثقفين بأن الأدب الروسي أو اللاتيني هو معيار "العالمية"، إلا أن هذا التصور غالبًا ما يُقصي أدبًا أمريكيًا غنيًا بأصوات مهاجرة، صنعت رؤى جديدة للعالم والإنسان.
من هذه الكتابات روايات المبدعة ليلى العلمي، وهي مغربية المولد، أمريكية التجربة، وعالمية الأفق..وللحق، رواياتها المتميزة كثيرة، وأشهرها "الطفل السري"، وهي رواية تدور حول شاب يعيش في الأحياء الشعبية للدار البيضاء، يكتشف سرًا عائليًا يغيّر مسار حياته.
أما الرواية التي تُعد من أشهر أعمالها، فهي "حكاية المغربي" أو "ما رواه المغربي" حسب الترجمة، وفيها تعيد الكاتبة كتابة التاريخ الأمريكي من منظور مصطفى الزموري، وهو عبد مغربي كان أول مسلم أفريقي تطأ قدماه أراضي أمريكا الشمالية. وقد رُشّحت هذه الرواية لعدد من الجوائز الأدبية الكبرى.
لكني سأتوقف عند آخر رواياتها، وهي "الأمريكيون الآخرون"، والتي تبدأ بحادث مميت لمهاجر مغربي في كاليفورنيا، وتنفتح على تحقيق في الحادث يكشف هشاشة "الحلم الأمريكي" من خلال شخصيات متعددة وخلفيات متباينة. وقد وصلت الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الأمريكية.
في هذه الرواية، تقدم ليلى العلمي مشهدًا افتتاحيًا دقيق الدلالة، وهو مشهد مقتل والد نورا، المهاجر المغربي البسيط، وهذا الحادث يندرج منذ اللحظة الأولى في منطقة ملتبسة بين المصادفة والجريمة، وبين القدر وسوء النية.
أيضًا، بهذا الحادث، تضع الكاتبة القارئ فورًا أمام سؤالين معلقين:من الذي قتل الأب؟ ولماذا يشعر الجميع، حتى أفراد الأسرة، بأن موته كان متوقعًا بطريقة ما؟
بمهارة وببراعة صورت الكاتبة الهواجس الداخلية للابنة نورا، حيث كتبت في بدايات الرواية ما يلى:
بعد وقت قصير، عاد طارق من المطعم ووضع المفاتيح على المنضدة قائلًا: «من سيتولى إدارة الحسابات؟»
رفعتُ عينيّ عن المناديل التي كنت أطويها، وسألته: «أي حسابات؟»
رد: «من سينظم كشوف الرواتب؟ ومن سيتعامل مع المدفوعات للموردين؟ بما أن المطعم مغلق، سيتأخر كل شيء قليلًا».
قلت له: «هل تسأل عن المال حقًا في ظرف كهذا؟»
قالت سلمى بنبرتها الزاجرة: «نورا».
ماذا؟ لقد سمعته...هذه ليست أسئلة غير منطقية. لا يمكننا جميعًا أن نكون مثلك. أنتِ تعيشين في عالم الأوهام».
هذه الجملة خصيصًا هي التي ظلت تعيش داخلي، ولم أستطع أن أتخلص منها أو أهرب من ترديدها..لقد سمعتها أول مرة في التاسعة أو العاشرة من عمري، حين كنت منهمكة في قراءة كتبي إلى درجة أنني لم أسمع اسمي عندما جرى استدعائي إلى مائدة العشاء،فقالت والدتي مازحة:«أنت تعيشين في عالم الأوهام».
بعد سنوات قليلة، عندما بدأت أساعدهم في المطعم بعد عودتي من المدرسة، تحولت الملاحظة إلى توبيخ مرير؛ تذمرت والدتي بالقول:لقد أخطأتِ في حساب الباقي، لأنك تعيشين في عالم الأوهام..وعندما قررت عدم الالتحاق بكلية الطب، أصبح هذا اتهامًا لي:«سوف تدمرين حياتكِ يا بنتي. أنت تعيشين في عالم الأوهام!»
وكأن الهروب إلى "عالم الأوهام" سبيلي إلى البقاء على قيد الحياة!.
وفعلا أدركتُ هذا باكرًا، في أول يوم لي بمدرسة يوكا ميسا الابتدائية، عندما قرأت السيدة نيلسن بمرح أسماء الأطفال في القائمة، لكنها لم تستطع نطق "نورا زهور غراوي"، حاولت نطق اسمي الأوسط مرتين وتوقفت، فقد حيّرتها الحروف الساكنة.
ساد الصمت في الفصل، وتملك الفضول الجميع بسبب الكلمة التي جعلت المعلمة تتلعثم..أنزلت السيدة نيلسن نظارتها على أنفها وحدّقت في وجهي. قالت: »ياله من اسم غريب! من أي بلد أنتِ؟»
وفي الاستراحة، تفرّق الأطفال ثم تجمعوا مرة أخرى في مجموعات صغيرة: أطفال الكنيسة، وأطفال مقطورات المتنزهات، وأطفال الهيبيين... مجموعات لم أكن أعرف فيها أحدًا، ولا أحد فيها يعرفني.
بقيت وحيدة بجانب الجدار الأزرق الذي يحيط بالأراجيح، وشاهدتهم من بعيد.. وفي الكافتيريا، أكلت الطعام الذي وضعته والدتي في صندوق غدائي، في حين كانت الفتيات الأخريات على مائدتي يهمسن فيما بينهن..التفتت نحوي بريتاني كاتلر، وهي شقراء جميلة ذات شعر مضفور وابتسامة عريضة، وسألتني: ماذا تأكلين؟
رفعتُ عينيّ، وأنا ممتنة جدًا؛ لقد أُتيحت لي فرصة للتحدث إلى شخص ما أخيرًا: قلت باذنجان..لكني فوجئت بقولها: يبدو كالبراز... ضحكت الفتيات الأخريات سخرية، ورحن ينادينني بقية اليوم بـ"آكلة البراز"!
الرواية للحق مكتوبة بشكل جميل للغاية وتأخذك مع الأحداث لحظة بلحظة، لتجعلك ترى العنصرية ضد المهاجرين عن قرب...
لقد استمتعت بقراءتها فاردت أن اشركك المتعة
الأسبوع القادم بإذن الله، نلتقي مع قراءة جديدة وكتاب مختلف.
0 تعليق