سامح قاسم يكتب: محمود خير الله.. شاعر الحانة وراوي المدن الخائفة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في زحام الشعر المصري المعاصر، يخرج صوت محمود خير الله كما لو كان خارجًا لتوه من قبو تحت الأرض، ممسكًا بكأس نصف ممتلئة، وسيجارة محروقة حتى المنتصف، وعينين تريان الخراب كأنه شرط ضروري للجمال. ليس شاعرًا زاهدًا ولا ناسكًا، بل هو شاعر الخسارات اليومية، الفرح القصير، والحياة التي تُستهلك بسرعة في مقهى، في غرفة ضيقة، أو في ذاكرة لم تعد تحتمل المزيد.

ولد خير الله عام 1971، لكنه لم يولد شاعرًا بقدر ما صار كذلك عنوة، ضدًا على السائد، في مواجهة قاسية مع اللغة والزمن والعالم. لا يكتب ليثبت مهارة، بل لأنه محكوم بالكتابة كما يُحكم العاشق بوجه الحبيبة التي غابت، والمدينة التي تغيرت، والجسد الذي صار هشًّا في عالم يزداد فظاظة.

ينتمي خير الله إلى جيل التسعينيات الذي حمل إرثًا ثقيلًا من الهزائم السياسية والجمالية، لكنه خرج منه بأخلاقيات مغايرة للشعر، أخلاقيات الهامش، والهروب، والمواجهة الناعمة. كتب قصيدة النثر لا كخيار فني فحسب، بل كموقف وجودي. قصيدته لا تهدف إلى الغنائية، ولا تستعير بلاغة العصور، بل تبني سردًا شعريًا يعيد الاعتبار لما هو عادي، لما هو مهمّش، لما لا يُلتفت إليه.

في ديوانه "لعنة سقطت من النافذة"، لا نجد قصائد عن المجاز الرفيع أو الحنين المدرسي، بل عن الشارع بوصفه مسرحًا للشعر، عن الحانة كمعبد، وعن الرجل الخائف الذي يعبر ليل المدينة حاملًا صوته الهشّ كمن يحمل جرحًا مفتوحًا دون ضماد.

ما يميز شعر خير الله ليس فقط الموضوع، بل اللغة. لغة مشحوذة كسكين، لا تقطع بقدر ما تكشف. هو لا يكتب ليزين الواقع، بل ليعريه. في قصائده نبرة سخرية مُرة، حزن غير معلن، غضب مكظوم. لا تجد صراخًا في شعره، بل نظرة طويلة، حزينة، تقول أكثر مما يُقال. لغته ابنة الحارة والكُتاب، الليل والذاكرة، اللهجة الساخرة والمفردة الفصيحة في آن.

في كتابه النثري "بارات مصر: قيام وانهيار دولة الأنس"، لا يكتب خير الله عن الخمر فحسب، بل عن التاريخ المصري من زاوية لم يطرقها أحد. يرى في البارات صورة مصغرة للمجتمع، مرايا تكشف الخوف، والأنس، والانهيار، كما لو أن الحانة هي آخر مكان يمكن أن نكون فيه صادقين. كتابه هذا ليس تأريخًا للمشروب، بل للمشروب بوصفه مهربًا، وطقسًا، وخلاصًا شخصيًا وجمعيًا.

ما من شيء مركزي في شعر خير الله. كل شيء في الهامش: الناس، الأصوات، الحكايات، حتى القصيدة نفسها. هو شاعر لا يسعى إلى الضوء، بل يكتفي بالظل. لا يبحث عن المعنى المباشر، بل يترك القصيدة مفتوحة، كجرح لا يندمل. قد تقرأ له فلا تلتقط الرسالة، لأن الرسالة الوحيدة هي أن لا رسالة، بل أثر، ومزاج، ونبرة تبقى في أذنك مثل لحن مألوف لا تذكر من أين جاء.

في زمن يركض فيه الجميع خلف المعنى، وخلف الجوائز، وخلف الاعتراف، يبدو محمود خير الله كمن يمشي عكس التيار، لا ببطء المتأمل، بل بخفة من لا ينتظر شيئًا. يكتب لأنه لا يستطيع أن يفعل غير ذلك. يكتب ليقاوم، لا العالم، بل نفسه. يكتب ليذكّرنا بأن الشعر قد لا يغير العالم، لكنه يجعلنا نراه بطريقة أقل قسوة.

هو شاعر لا يصرخ، ولا يهمس، بل يتكلم بصوت رجل عاد للتوّ من حانة قديمة، وجلس يروي لنا كل ما رأى، دون أن يزيف شيئًا، ولا حتى حزنه.

لو أردت أن تعرف وجه القاهرة الخفيّ، وجهها المتعب، وجهها الإنساني الذي لا تلتقطه العدسات، فاقرأ محمود خير الله، لا كقارئ، بل كرفيق في نزهة حزينة، داخل مدينةٍ لا تنام، ولا تحب، لكنها، رغم كل شيء، لا تكفّ عن الانتظار.
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق