عادت فكرة الوساطة الدولية بين المغرب والجزائر لتطفو من جديد على السطح، وهذه المرة بصيغة أمريكية مباشرة، تعكسها التصريحات المنسوبة إلى مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشؤون الأفريقية والشرق أوسطية، مسعد بولس، الذي تحدث عن مبادرة مرتقبة لتقريب وجهات النظر بين الرباط والجزائر بشأن ملف الصحراء.
وساطة تنبثق من رحم التعقيد الإقليمي، وتحاول نسج خيوط هادئة بين جارين فرقتهما سنوات طويلة من القطيعة السياسية وسوء الفهم المتراكم، وبين واقع متوتر وتاريخ مثقل بالشكوك، لكنها تفتح الباب أمام تساؤلات عميقة من قبيل: هل آن الأوان للإنصات إلى صوت العقل؟ وهل بإمكان لغة الدبلوماسية الهادئة أن تتجاوز لغة التصعيد؟
ولم يبد المغرب يوما رفضا صريحا لأي مبادرة تستند إلى مقاربة واقعية ومسؤولة، بل طالما عبّر عن استعداده للانخراط في جهود التقارب ما دامت تنطلق من احترام سيادته ووحدته الترابية، وتقطع مع أطروحات متجاوزة لم تعد تحظى بأي سند دولي. وفي كل المناسبات ظل الخطاب المغربي متزنا، وداعيا إلى عدم جر المنطقة إلى مزيد من الانغلاق.
وعلى امتداد العقدين الأخيرين قدم المغرب إشارات واضحة بخصوص رغبته في تجاوز الخلافات، بدءا بمبادرته للحكم الذاتي كحل سياسي نهائي يحفظ ماء وجه الجميع، مرورا بانخراطه الهادئ في الديناميات الأممية، ووصولا إلى رفضه الانزلاق إلى أي منطق تصعيدي حتى حين أُغلقت قنوات الحوار وتوالت المناوشات الإعلامية.
وفي خطاب المسيرة الخضراء للعام الماضي اختار الملك محمد السادس أن يُوجه رسائل تهدئة ودعوة للتفكير المشترك، رافضا منطق الاستعداء، ومشددا على ضرورة فسح المجال أمام مبادرات التعاون الإقليمي، خصوصا ما يتعلق بمقترح تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي؛ وهو ما فُهم على نطاق واسع كدعوة غير مباشرة للجزائر للتفكير في منطق التكامل واستغلال الحدود المشتركة بين البلدين.
في المقابل لا تغيب عن الرباط تعقيدات المشهد السياسي الجزائري، ولا صعوبة اتخاذ القرار في ظل تركيبة الحكم المتشعبة، وهذا الوعي جعل المغرب لا يذهب نحو خيار الإغلاق النهائي أو رفع منسوب التوتر، بل ظل صامدا في موقع “الصبر الاستراتيجي”، مكتفيا بالتمسك بشرعية موقفه، والتفاعل الإيجابي مع كل من يعرض تسهيل الحوار، سواء عبر الأمم المتحدة أو عبر قنوات ثنائية أو متعددة.
أبواب مفتوحة
وللتعليق على مدى نجاح الوساطة الأمريكية بين المغرب والجزائر، قال عبد المجيد بلغزال، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، إن “ما نُسب إلى مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من حديث عن وساطة بين المغرب والجزائر هو بالنسبة لي خيارا محمودا”، مضيفا أن “التراكم الإيجابي الذي حققه المغرب في الآونة الأخيرة، بما في ذلك إعادة تأكيد الولايات المتحدة موقفها الداعم لسيادته على الصحراء، واعتبار مبادرة الحكم الذاتي الحل الوحيد للنزاع الإقليمي، يُمثل مكسبا مهما يجب أن يُستثمر في التهدئة لا في الترويج لخطاب شعبوي وتحريضي متجاوز”.
وأبرز بلغزال، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “ما ينبغي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو الحرص على إبقاء الأبواب مفتوحة من أجل حفظ ماء وجه الجميع”، لافتا الانتباه إلى أن “الخطاب الشعبوي والتحريضي لا يخدم فرص السلام، بل يعيق بناء الثقة المطلوبة في هذه المرحلة الحساسة”.
فرص السلام
وأضاف المتحدث ذاته أن “تركيبة الحكم المعقدة في الجزائر تقلص إمكانيات التقاط الأصوات والإرادات الإيجابية لبناء السلم؛ ومع ذلك فإن المملكة المغربية، التي عرفت في أصعب الظروف كيف تتفادى جر الشعبين الشقيقين إلى حرب مدمرة، خاصة في أعقاب معركة أمكالة الثانية، حريصة اليوم على جعل مبادرة الأطلسي والساحل والصحراء إطارا نزيها للتجاوب مع الاعتبارات الواردة في مختلف قرارات مجلس الأمن، ومن جهة ثانية منح فرص مبتكرة ومتجددة أمام الإخوة في الجزائر من أجل اغتنام فرص السلام”.
“المغرب يتعاطى مع المعطيات الميدانية بحكمة وروية، رغم توفره على الإمكانيات التقنية والعسكرية التي تخوّل له حسم تفاصيل ميدانية حساسة على الأرض”، يسجل الباحث في خبايا ملف الصحراء، قبل أن يضيف “أعتقد أن المملكة، وهي تتحكم اليوم بشكل متزايد في المنطقة العازلة الواقعة شرق الجدار، كان ولا يزال بإمكانها أن تتقدم نحو الإغلاق التام باستكمال الجدار الرملي الفاصل بين المحبس ودارة 75، ملتقى الحدود المشتركة بين موريتانيا والمغرب والجزائر؛ لكنها تتمهل في محاولة لتجنب الإغلاق التام، وبالتالي فرض معادلة إما السلم أو الحرب المباشرة مع الجزائر”.
ورغم تصاعد درجات الأصوات الداعية للتصعيد، أوضح بلغزال أن “المملكة تدرك أن الحرب مدمرة للجميع، وأن مشروع الحكم الذاتي يحفظ ماء وجه الجميع”، معبّرا عن أمله في أن “تتحرك كل إرادات السلم والخير من أجل إنهاء هذه المأساة”.
وختم عضو “الكوركاس” حديثه لهسبريس بالتأكيد على أن “تفرد الولايات المتحدة اليوم بالوساطة لدى الطرفين لن يكون دون أثمان باهظة، لذلك آمل شخصيا تضافر كل الجهود الخيّرة من أجل تقريب وجهات النظر من أجل الحفاظ على مسافة كبرى لاستقلالية وسيادية القرار المغاربي”.
0 تعليق