عسكرة المساعدات في غزة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

حين تصبح لقمة الخبز أداة أمنية، تفقد الإنسانية معناها، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ومع تعاظم حجم الكارثة الإنسانية، باتت المساعدات التي تصل إلى القطاع شريان حياة لا غنى عنه لمليونَي إنسان محاصر تحت القصف والجوع والعطش، غير أن هذا الشريان، الذي يفترض أن يكون إنسانيًا خالصًا، لم يكتب له النجاة من التسييس والعسكرة، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى أداة رقابة واختراق أمني خطير، يُستخدم للفرز والتمييز والتحكم في رقاب الغزيين قبل أن يصل إلى بطونهم.

وإذا كان المعابر هي بوابات الغذاء، فهي أيضاً بوابات الرقابة الصارمة، في حال دخول المساعدات، تمر عملية توزيعها أولاً عبر البوابة الإسرائيلية، حرفيًا ومجازيًا، فإسرائيل لا تكتفي بتحديد نوع المساعدات وكميتها، بل باتت تشرف على آلية دخولها وتوزيعها، بما في ذلك شروط الحصول عليها، ووفقًا لتقارير عدة، تُستخدم تقنيات بيومترية متقدمة مثل "بصمة العين" في نقاط التوزيع لتسجيل بيانات المستفيدين، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول الغاية من هذا النوع من "المساعدات الذكية".

وتحت غطاء "التحقق من الهوية"، تُستخدم هذه البيانات لاحقًا لفرز الفلسطينيين، وتمييز من يُعتقد أنهم ينتمون إلى حركة حماس أو لديهم صلات بها، ومن يُعتبر "مواطنًا عاديًا" وبهذا الشكل لا تصبح المساعدات مجرد دعم إنساني، بل تتحول إلى وسيلة لعقاب جماعي ناعم، حيث يتم إجبار المواطن الغزاوي على إثبات "حياده السياسي" للحصول على كرتونة غذاء أو لتر من الماء.

ومن أجل مزيد من القهر والسيطرة، تواترت أنباء عن قيام إسرائيل باستخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح خفي في ساحة الغذاء، وهذا هو الأنكى التسريبات المتداولة تقول أن إسرائيل سوف تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستفيدين من المساعدات، ورسم خرائط اجتماعية دقيقة حول الولاءات والانتماءات في القطاع، كاميرات متطورة، برمجيات تعمل، ومراكز تحليل بيانات تديرها منظومات عسكرية وأمنية، تحوّل مشاهد الطوابير الطويلة للحصول على المعونة إلى لقطات مراقبة أمنية، تُحلل كل حركة، وتُقيّم كل وجه.

إنها رقابة مزدوجة.. رقابة ميدانية تمنح أو تمنع المساعدة، ورقابة استخباراتية تستثمر في الجوع لبناء بنك معلومات قابل للاستخدام في أي وقت ضد أهل القطاع.

 فى هذا الإطار، لا يمكن تجاهل أن تجربة توزيع المساعدات في غزة، وخاصة في الأزمات الكبرى، لطالما شابها الفساد والمحسوبية، خصوصًا من طرف الجهات المسيطرة على الأرض، فقد اتُّهمت حماس، مرارًا، بتحويل جزء من المساعدات لصالح عناصرها، وتوزيعها وفق اعتبارات تنظيمية أو حتى بيعها في السوق السوداء، وهو ما أثار نقمةً داخلية متزايدة.

هذه الوقائع أضعفت ثقة الناس بآلية التوزيع، وفتحت الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية، تحت مبرر "الرقابة والتنظيم". إلا أن الردّ الإسرائيلي على هذه المشكلة لم يكن تأسيس آلية عادلة ومحايدة، بل فرض نظام مراقبة خانق، يُخضع المواطن نفسه للاختبار الأمني قبل حصوله على المساعدة، ما يجعل من الجوع أداة ابتزازٍ ناعم.

رغم تفهم المخاوف من الفوضى أو سيطرة حركة حماس على المساعدات، فإن الطريقة الحالية في التوزيع تُشكّل إهانة لكرامة الناس وحقوقهم الإنسانية الأساسية، الوقوف في طوابير خاضعة للمراقبة، تمسح فيها عيناك قبل أن تمسك بربطة خبز، هو شكل جديد من أشكال القهر اليومي.

وقد دفعت هذه المعطيات وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة إلى التحذير من استمرار العمل بهذه الآليات، ووصفتها بأنها "تمس بالسيادة والكرامة الوطنية"، لكنها في المقابل لم تطرح بديلاً عمليًا واضحًا، ما جعل التحذير أقرب إلى صرخة في الفراغ منه إلى خطة إنقاذ.

هنا نسأل ما هو الحل؟ ببساطة نقول إننا نريد آلية محلية بشفافية دولية.. إن توزيع المساعدات في مناطق النزاع والحصار يتطلب حوكمة دقيقة، لا تنفصل عن الواقع السياسي لكنها لا تُختزل فيه، الحل لا يكمن في ترك حماس تهيمن على المعونات، ولا في ترك إسرائيل تحوّلها إلى ساحة تجسس، المطلوب هو آلية توزيع تُدار محليًا، بإشراف لجان أهلية حيادية ومراقبة دولية شفافة، تضمن العدالة والكرامة، وتحترم حق الناس في العيش دون أن تُعاملهم كأرقام أمنية أو أدوات سياسية.

ففي النهاية، لا يمكن أن تكون المساعدات أداة فرز أمني، ولا يجوز أن يُرهن الجوع بموقف سياسي، ولا يجب أن يتحول الجائع إلى مُشتبه به... لأن الإنسان لا يُقاس ببصمة عينه، بل بكرامته.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق