في فجرٍ ثقيل لا يشبه سواه، دوّت الضربة، طائرات B‑2 الشبحية، المتخصصة في المهام التي لا يستطيع تنفيذها إلا من يملك مفاتيح نهاية العالم، انقضّت من الظلّ وأسقطت ما يزيد على نصف طن من المتفجرات على مفاعل فوردو، القلب الصلد للبرنامج النووي الإيراني.. لم يكن الهدف عادياً، بل كان الهدف الأعلى قيمة واستراتيجية، يقع على عمق صعب داخل الجبل، حصينٌ كقلب دولة لا تعرف التراجع، وبضربة واحدة، امتد اللهيب ليطال نطنز وأصفهان، في إعلان أمريكي صريح بأن ما كان محرّمًا بالأمس صار مسرحًا للردع اليوم.
ترامب، في خطوة وُصفت بالحساسة للغاية، أصدر أوامره بتجنب قصف محطة بوشهر النووية، ليس رأفة، بل احترامًا لوجود خبراء روس داخل المنشأة، في إشارة واضحة إلى أن النار لا يجب أن تُشعل حدود موسكو. أما طهران، فهرعت سريعًا لتقليل أثر الضربة، مدعية أنها كانت قد نقلت بالفعل المواد النووية المخصبة وأجهزة الطرد الحديثة إلى مواقع سرية بعد الضربة الإسرائيلية الأخيرة، وكأنها كانت تتوقع يومًا كهذا، لكن الخطاب بدا أكثر ميلًا للتقليل من الهزيمة منه إلى الإعلان عن نجاتها.
صمتٌ كثيف خيّم على الساحة، لم تُعلن إيران حتى اللحظة ردًا صريحًا باستثاء القصف اليومى المعتاد للداخل الإسرائيلى.. التقديرات تشير إلى أنها قد ترد بضربة محدودة على قاعدة أمريكية في العراق، تحرك محسوب يحفظ ماء الوجه دون أن يفجّر البرميل الإقليمي. اللافت أن اختفاء الطائرات الأمريكية من قاعدة العديد بقطر قبل الضربة بساعات، لم يكن صدفة، بل كان تمهيدًا لانقضاض مباغت يُعيد هندسة المشهد من فوق.
في هذا الإطار، تبدو ملامح التحول الجيوسياسي أكثر وضوحًا، فالحرب التي كانت تُدار في الظلّ باتت تُكتب الآن بالنار وعلى الملأ، الضربة الأمريكية لم تُسقِط منشآت فحسب، بل فجّرت معها أسس التوازن التقليدي في الإقليم، دول الخليج باتت على تماس مباشر مع التصعيد، وقلقها من انتقال النيران إلى مضيق هرمز، قلب تجارة الطاقة في العالم، يدفعها إلى مواقف أكثر جرأة، ربما إشارات متزايدة بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب، مقابل مكاسب في كبح الطموحات الإيرانية النووية.
واشنطن كرمزٍ للقدرة النووية المستترة خلف الستار الدبلوماسي، جعلت العالم أجمع يقف على قدم واحدة، يراقب بحذر، يتنفس بتوتر، ويدرك أن أول قنبلة أمريكية على فوردو قد لا تُسقط مبنى فحسب، بل تسقط ما تبقى من توازن هش في المنطقة.
المفارقة أن الصراع المتأجج لم يكن صراعًا بين بلدين فحسب، بل هو مرآة لحرب أوسع تتشكل طبقاتها بهدوء في دواخل دول الخليج ومصر، دول الخليج التي لطالما حاولت أن تمسك العصا من منتصفها بين الرغبة في ردع إيران والرهان على استقرار السوق النفطية، تجد نفسها اليوم في موضع حرج فهل تستمر في صمتها الذكي؟ أم تبدأ مرحلة تموضع جديدة على نحو أوضح؟ السعودية والإمارات وفي بيانات دبلوماسية محسوبة أعربتا عن قلقهما من التصعيد، لكنهما في الوقت نفسه سمحتا بحركة أمريكية خفيفة أكثر مرونة عبر أراضيهما، وهذا مؤشرٌ ناعم على انزياح المحور الخليجي نحو صيغة ردع قد لا تُعلن صراحة، لكنها تترجم بأفعال تسبق التصريحات.
في مصر، تسير السياسة على حد السكين، الدولة التي تحمل على عاتقها توازنات دقيقة بين الأمن الداخلي في سيناء، والتوتر المشتعل عند حدود غزة، والمصالح الاقتصادية التي تمر عبر قناة السويس، تجد نفسها وسط دائرة من اللهيب.. ضربة بحجم استهداف فوردو، تعني بالضرورة تداعيات اقتصادية إقليمية، ارتفاع أسعار النفط، احتمال تهديد الملاحة، وتعقيدات جديدة في معادلة اللاجئين والضغط الإنساني، مصر لا تتحرك عسكريًا، لكنها تتهيأ لمواجهة سيناريوهات لا ترغب فيها، وتكثف حركتها الدبلوماسية لتطويق النيران قبل أن تصل إلى بابها.
في المقابل، تتشكل التحالفات كما تتشكّل الجبال من زلازل الأرض، المحور الأول يبدو صريحًا إسرائيل، الولايات المتحدة، ودول الخليج في معسكر الردع، تتبادل المعلومات والدعم، حتى لو بقيت بعض الخطوات في الظل.. أوروبا تقف مترددة، ما بين دعم واشنطن ومخاوف من اشتعال المنطقة واندفاع اللاجئين نحوها، أما روسيا، فتراقب عن بُعد، مستاءة من تجاوز الخط الأحمر في بوشهر، لكنها غير راغبة في تصعيد مباشر. والصين، كعادتها، تلعب لعبة الوقت، حامية لمصالحها النفطية، وراعية لحلول غير واضحة المعالم.
المعسكر المقابل يتمثل في إيران ووكلائها حزب الله، الحوثيين، والميليشيات المدعومة في سوريا والعراق، وحتى هذه اللحظة، لا يزال هذا المحور يلوّح بردود متقطعة، لكنها لم ترتقِ إلى مستوى التصعيد الشامل. حزب الله يرسل رسائل حذرة، والحوثيون يستعرضون حضورهم في البحر الأحمر، فيما تكتفي سوريا بالمراقبة عبر التنسيق مع الروس، لكنها لا تزال تحت سقف الحذر.
على حافة هذا المشهد، تطل تركيا كطرف ثالث، تسعى للعب دور الوسيط، لا حبًا في التهدئة، بل طمعًا في الحضور السياسي، وإعادة التموضع الإقليمي، أنقرة تعرض الوساطة، وترفع شعارات الحوار، لكنها في الخفاء تتابع كيف تتشكل موازين القوى، عساها تجد لنفسها موطئ قدم في المرحلة المقبلة.
من هنا، يبدو عنوان المرحلة أكثر وضوحًا، في انتظار فوردو، لم يعد انتظارًا لضربة، بل لما بعد الضربة. أي شرق أوسط سيولد من تحت ركام المفاعل؟ أي تحالفات ستنهض من بين الأنقاض؟ وأي عواصم ستكتشف أنها لم تكن بعيدة عن مدى القنبلة كما كانت تظن؟.
في ختام هذا المشهد المرتبك، يصبح من الواضح أن ما جرى ليس نهاية فصل، بل افتتاحٌ دامٍ لفصل جديد. الشرق الأوسط لا يعود كما كان، حين تُقصف المنشآت النووية دون إعلان حرب رسمي، وحين تُنقل الأسلحة إلى الملاجئ السرية كأن الأرض كلها ساحة معركة، واللاعبون – من طهران إلى تل أبيب، ومن الخليج إلى البحر الأحمر – يتحركون على رقعة لا يحكمها قانون إلا ميزان القوة، ولا تحدّها خرائط إلا ما يُرسم بمداد اللهب والدخان.
0 تعليق