إفيه يكتبه روبير الفارس "سماحة القتلة الأوائل"

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

امتلك إبراهيم عيسى نارًا مسروقة من جبل الآلهة القديم، طبخ بها حرفيًا وقائع تاريخية دامية، في ثلاثية روائية مدهشة على المستوى الفني المذهل. فجعل من المواد الجافة المكورة في كتب التاريخ القديم سردية فائقة الجمال والعمق والمتعة.  
في نحو ألفي صفحة، نسج شخصيات من لحم ودم وهم وغم. أقدامهم وأيديهم ورؤوسهم وعقولهم وسيوفهم وخناجرهم تمتد من أوراق "رحلة الدم" و"حروب الرحماء" و"سيوف الآخرة"، لتعيش بخلافاتهم وفتاوايهم في زمن البيتزا، وتشكل واقعنا ومستقبلنا ومحور قضايا حياتنا – سبحان الله – حتى الآن.  
الرواية بأجزائها الثلاثة درس في كيفية التعامل الفني مع التاريخ الشائك، مع الالتزام بكل أحداثه دون تغيير أو تحوير، وهنا مكمن السحر والإبهار. وتدور في المناطق الملتهبة في حياة الخلفاء المعروفين بالراشدين. ولو لم يكتب إبراهيم عيسى طوال حياته غيرها، لكفاه ذلك فخرًا وخلودًا في دنيا الإبداع.  
وهي، لعمقها وتعدد جوانبها، تحتاج إلى دراسات وأبحاث ورسائل أكاديمية عدة لنصل إلى مواضع جمالها وسر فتنتها. ولكن الخيط الوحيد الذي التقطته لأشير إليه هنا، هو الملاحظة الذكية، بل الرهيبة، التي أدهشتني بشأن هذا الروائي الفذ، وهي فكرة "تسامح العرب. " 
هؤلاء الذين كانت تصوراتنا عنهم هي الجفاء والقسوة والبداوة والاحتقار، أظهروا تسامحًا غريبًا مع منكوري النسب، ورفعوهم إلى أعلى المراتب في القيادة والسياسة والحكم!  
تسامح لا تجد له موقعًا من الإعراب الآن.  
ولعلنا نذكر التقرير الوثائقي الذي اختُتم به مسلسل "ولاد الشمس"، الذي عُرض في رمضان الماضي، وكيف تحدّث أكثر من يتيم ويتيمة عن نبذهم اجتماعيًا لكونهم "لقطاء".

استمع إلى صوت عمرو بن العاص في حوار له مع معاوية – كما جاء في الرواية – يقول:  
 "أما أنا، فالأم النابغة سلمى بنت حرملة عاهرة يا معاوية. لعلك تذكر أنها كانت ستصبح أمك أو أنني كنت سأكون أخاك. نعم، لا تستغرب، فهي نامت ليلتها مع أبي لهب وأمية بن خلف وأبي سفيان والعاص، فلما ولدتني ألحقَتني بالعاص؛ فقد كان كريمًا معها منفقًا عليها. فمن أدراك أنني لست ابن أبي سفيان، وأنني أخوك مثل زياد ابن سمية؟ فالنابغة من طمي سمية. كانت سمية جارية تتعاهر تحت اسم سيدها الحارث، وزوجها عبيد بن أبي سرح."

وفي مقطع آخر من الرواية، يقول عن زياد – ابن أبيه – حاكم فارس وكرمان،" الأخ المرذول لمعاوية بن أبي سفيان، ابن السفاح ابن الزانية، محروم من نطفة أبيه في اسمه، بينما تجري في عروقه دماء مجردة من اسم والده أبي سفيان، ومع ذلك يصعد وينجح ويقوى ويرأس ويتأمر.  
ووالله إنه ليشكر العرب أن سمحوا له بأن يكون قائدًا وفارسًا وزعيمًا، كما سمحوا لعمرو بن النابغة أن يكون حاكمًا.  
لقد تعايشوا مع منكوري النسب بهذه الأريحية التي سمحت لابن العاهرة أن يكون نجمًا وأميرًا، وكذلك أخوه من ذات الرحم، عقبة بن نافع."

فهل كانت هذه السماحة خضوعًا للأقوياء النافذين – أي سماحة تحت حد السيف؟  
أم عن نفوس أكثر أريحية وقبولًا للأخطاء البشرية؟  
تبقى أنها سماحة استفاد منها إلى أبعد حد "القتلة الأوائل".

روح التسامح تلك تذكرني أيضًا بتسامح الكنيسة القديمة والأقباط مع زانٍ مثل الفيلسوف أغسطينوس – الذي كان له ابن غير شرعي – فلم يُرفض كنسيًا، بل قُبلت توبته وأصبح من أشهر مفسري الكتاب المقدس، وصار أسقفًا – أي نال سر الكهنوت – بل وحصل على لقب قديس.  
ومثله القديس موسى الأسود الذي كان زانيًا ورئيس عصابة، ثم تاب وترهّب ورُسم قسًا – أي حصل أيضًا على سر الكهنوت.  
ثم جاء زمن تشدد قاسٍ، يرفض من يقع في خطيئة الزنا أن ينال سر الزواج مرة أخرى، أو يُمنح فرصة لحياة ثانية.

أفيه قبل الوداع  
- ليه يا زمن مسبتناش أبرياء؟  
- الأبرياء لن تُكتب عنهم الروايات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق