التأثير عبر منصات "السوشل ميديا" .. أعطاب سلوكية ومقترحات علاجية

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تنتشر ظاهرة “المؤثرين” أو الـ”إنفلوينسرز” بشكل واسع في الفضاءات الرقمية، وأصبح حضورهم طاغيا في الحياة اليومية للمراهقين من خلال المحتويات المتنوعة التي يعرضونها على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يروّجون لأنماط عيش محددة ويعبّرون عن مواقفهم تجاه مواضيع متعددة.

في هذا السياق، يُطرح النقاش حول مدى تحوّل هؤلاء المؤثرين إلى مرجعية ثقافية وسلوكية بديلة لدى المراهقين محلّ الأسرة أو المدرسة أو وسائل الإعلام التقليدية، إضافة إلى تساؤلات بشأن حدود تأثيرهم في اختيارات الشباب المتعلقة بالمظهر والعلاقات والمواقف من الحياة، كما يثار الجدل حول المخاطر النفسية المحتملة الناتجة عن التماهي المفرط مع نماذج تُروّج، في الغالب، لصورة مثالية أو سطحية.

الصحة النفسية

ندى الفضل، أخصائية معالجة نفسية إكلينيكية، قالت إن “وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة المراهقين، ولا شك أن ‘المؤثرين’ أو الـ’إنفلوينسرز’ يمثلون شخصيات محورية في هذا العالم الافتراضي؛ فهم أفراد يتمتعون بعدد كبير من المتابعين، ويملكون القدرة على التأثير في آراء وسلوكيات الجمهور، خاصة فئة المراهقين، من خلال المحتوى الذي يقدمونه في مجالات متنوعة مثل الموضة والجمال والتغذية واللياقة والعلاقات الاجتماعية”.

وأضافت الفضل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية تُظهر أن للمؤثرين تأثيرا كبيرا على الصحة النفسية والسلوكية لدى المراهقين، وذلك يعود إلى أن هذه الفئة العمرية تمر بمرحلة بناء الهوية، وتكون أكثر عرضة للتأثر بالنماذج التي تراها أمامها، خصوصا إذا كانت هذه النماذج تقدم أنماط حياة ‘مثالية’ أو غير واقعية”.

وأشارت إلى أن “من أبرز السلبيات والمخاطر النفسية الناتجة عن التتبع المفرط للمؤثرين، انعدام الثقة بالنفس، إذ تؤدي المقارنة المستمرة بين حياة المراهقين الواقعية والمحتوى ‘المصقول’ الذي ينشره المؤثرون إلى شعور بالدونية أو النقص، كما يُسجل تأثر سلبي في صورة الجسد، حيث يواجه المراهقون معايير جمال غير واقعية، مما قد يسبب اضطرابات في الأكل أو الإحساس بالخجل من المظهر”.

وذكرت الأخصائية نفسها، في السياق ذاته، أن “الضغط الاجتماعي الناتج عن محاولة تقليد المؤثرين يؤدي إلى انخراط المراهقين في سلوكيات لا تناسبهم، فقط من أجل نيل القبول الاجتماعي”، مشيرة إلى أن “الاضطراب في العلاقات الواقعية أيضا قد يؤدي إلى الانغماس المفرط في العالم الرقمي، وإلى عزلة اجتماعية وتراجع في مهارات التواصل الواقعي، كما أن بعض المؤثرين قد ينشرون محتوى غير مناسب أو مضلل، مما يعرض المراهقين لخطر تبني أفكار أو ممارسات سلبية وضارة”.

ولتفادي المخاطر النفسية، شددت ندى الفضل على “تعزيز الوعي الرقمي من خلال تعليم المراهقين كيفية التمييز بين المحتوى الواقعي والمزيف، وفهم دوافع المؤثرين كالترويج المدفوع”، و”تشجيع الحوار المفتوح بين الأهل والمراهقين حول ما يشاهدونه على وسائل التواصل”، و”تنمية الثقة بالنفس لدى هذه الفئة من خلال التركيز على قدراتهم وتقدير إنجازاتهم الواقعية، بغض النظر عن المعايير الرقمية”.

وأكدت الأخصائية المعالجة النفسية الإكلينيكية أهمية “ضبط وقت استخدام وسائل التواصل، عبر تحديد أوقات معتدلة وتشجيع أنشطة بديلة كالهوايات والرياضة”، و”عرض نماذج واقعية ملهمة من المؤثرين الذين يقدمون محتوى تعليميا ومفيدا”.

القدوة المفقودة

عياد أبلال، باحث في علم الاجتماع وأنثربولوجيا الثقافة، قال في تصريح لهسبريس إن “عددا كبيرا من الناس، بمن فيهم صانعو القرار، في كل الأنظمة والدول، يغيب عن أذهانهم أن صناعة القدوة هي أساس التربية، وأن الأطفال والشباب مجبولون بالفطرة على الاقتداء واستكمال ما ينقصهم”، مشيرا إلى أن “ما ينقصهم يحدده المجتمع وفق البراديغم الاجتماعي، ولذلك، جاءت طقوس العبور في مختلف الثقافات لتساعدهم على الانتقال من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة”.

وأضاف أن “النماذج والقدوات تلعب المرآة العاكسة لمواصفات الشخصية القاعدية. لذلك، فتأثير القدوة والنموذج يتم من خلال الاقتداء والتشبيه والتماثل والتطبيع، حيث يتماهى الطفل والشاب كما هو حال كل كائن اجتماعي مع النموذج والقدوة”، موضحا أن “التأثير يأتي من تطبيع المجتمع مع نماذجه وقاداته وأمثلته الرمزية، حيث يتحول المؤثر إلى مرجعية للتأثير بعدما حوله المجتمع إلى رمز وسيلي مكثف، ولذلك كانت التربية بالقرين والتأثير بالنموذج خلفية مرجعية لصناعة النخب والقادة والنماذج التي تحوز الشرعية الأخلاقية والمعرفية والمشروعية المجتمعية”.

وأفاد أبلال بأنه “مع أفول نجم المدرسة وتفكك التربية المدرسية والتعليمية نتيجة الأزمة المجتمعية، التي قبل أن تكون أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية فهي أزمة ثقافية، أصبحت المدرسة التي كان من واجبها ووظيفتها الرمزية بناء وصياغة المشروع المجتمعي، مُؤسسة تعمل على المصادقة على مشروع الشارع، ومشروع الأسرة، ومشروع الجماهير، وهي مشاريع تفتقد للعمق الأخلاقي والرؤية الحضارية، لأنها بقيت ضحية النيوليبرالية التي عملت منذ بداياتها على تسليع الإنسان وتحويله إلى موضوع للمِلكية وفق ما تقتضيه الحريات الفردية في بعدها الاستهلاكي”.

وتابع بأن “الإنسان أصبح علامة مثل باقي العلامات التجارية والصناعية، وأصبحت بالتالي وسائل الإعلام والأسرة تجد نموذجها الاقتدائي في الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي، التي أسست على قاعدة خوارزميات التعبئة والاستلاب والتجييش والوعي المزيف بمفاهيم اللذة والمتعة والرغبة، وهو ما جعل شخصيات تخييلية في شبكات التواصل الاجتماعية، وفي الميديا عموما، تتحول إلى رموز، بفضل انتخاب الحس المشترك للأكثر شهرة والأكثر غرابة والأكثر عجائبية، وهي سردية ترميز التفاهة والتافهين التي وصفها السوسيولوجي الكندي بنظام التفاهة”.

ونبّه الباحث في علم الاجتماع وأنثربولوجيا الثقافة إلى أن “هذا التحول يضمر انقلابا كبيرا في القيم، حيث تحولت القيم الارتكاسية المرتبطة بالغريزة والشهوة واللذة إلى قيم فاعلة، والقيم الفاعلة، التي هي أساسا قيم المحبة والخير والاستحقاق والمجهود، أصبحت قيما ارتكاسية”، مضيفا أن “الفضيحة تحولت إلى رأسمال رمزي جالب للثروة، التي ليست سوى الشهرة مصحوبة بالأسدنس، وهو ما جعلنا ندخل في طور المجتمع الفضائحي، وهو مجتمع تلصصي يتغذى على الحياة الخاصة والحميمية للناس، وهذا هو سياق بروز المؤثرين، وهذا هو تأثيرهم في المراهقين”.

مقترحات علاجية

أوضح عياد أبلال أن “شبكات التواصل الاجتماعي تمت صياغتها في سياق تضخيم الرغبة في الاستهلاك، فهذه الشبكات ليست بريئة، بل هي آلية صناعية ومن آليات صناعة الاستهلاك وتضخيمه بتحويل الإنسان إلى مجرد مستهلك”، مضيفا أن “هذه الصناعة تعمل على تضخيم الغرائز والأهواء والرغبات، عبر الموضة والإشهار وعبر الاستعراض التفاخري، ولذلك كلما كان المؤثر قادرا على جلب وتجييش المشاهدين والمتتبعين ارتفع مؤشر الأسدنس، وكلما ارتفعت نسبة المشاهدة، ارتفعت قيمة الاستعراض التفاخري، وهو جوهر الماركوتينغ في النيوليبرالية”.

ودعا المتحدث إلى “إعادة النظر في السياسة التعليمية المغربية على أساس عقد اجتماعي وسياسي جديد، أساسه أن الترقي الاجتماعي يجب أن يتأسس على قاعدة العلم والمعرفة والاستحقاق، وأن تربية الناشئة يجب أن ترتكز على المشروع المجتمعي الذي تبنيه وتصنعه المدرسة، وأن كل تهميش للمدرسة والأستاذ هو تهميش للحزب والنقابة والأسرة والإعلام، وهو ما يهدد مستقبل البلاد”.

وقال: “أعتقد أن إصلاح منظومة التربية والتكوين رهين بتوفر إرادة سياسية تكون في حجم التحديات المفروضة علينا في زمن العولمة والميديا وشبكات التواصل الاجتماعي التي باتت في حقيقة الأمر تقوم بدور تنشيئي خطير يهدد الأسرة والمجتمع، كما يهدد مؤسسات الوساطة، وهذا الإصلاح يجب أن ينطلق من تحديد المواطن الذي نريد، على أساس مناهج جديدة تواكب تطورات العالم اليوم في زمن الإنسان المرقمن، كما يجب تفعيل الأندية التربوية في المدارس والجامعات ودور الشباب على الأساس التربية على القيم والمواطنة والرقي المجتمعي”.

ودعا الباحث في علم الاجتماع وأنثربولوجيا الثقافة أيضا إلى “تفعيل القانون، من خلال محاربة كل الصفحات والمؤثرين الذين يروجون لمحتويات تتغذى على الفضائح والجرائم والعنف والتسفيل، وهو تفعيل يشمل بعدا جنائيا، من خلال عقوبات في حجم الخطر الذي يمثلونه، وبعدا ثقافيا رقابيا يتجلى في حذف كل الصفحات الفضائحية والتافهة، اقتداء بعدد من البلدان”.

وبعدما أشار إلى أهمية “خلق مناعة مكتسبة لدى الأسر والأفراد عبر الإعلام الجاد والنقدي والتنويري، بحيث لا يجب أن يصبح الإعلام امتدادا لهذه الشبكات، حيث يتم تتويج واستضافة عدد من هؤلاء المؤثرين، بما يمنحهم شرعية إعلامية ومشروعية اجتماعية”، دعا أبلال إلى “إعادة الاعتبار للعلاقة مع المثقفين والفنانين والمفكرين عبر تمكينهم من أداء دورهم الحيوي في المجتمع، وحماية وظيفتهم التنويرية قانونيا ومؤسساتيا، وعبر تكريس ثقافة الاعتراف في المجتمع تجاه القادة والنماذج الحقيقية”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق