لا شيء يُجسّد وحدة المسلمين كما يفعل الحج، فتلك الرحلة التي تنطلق من أطراف الأرض لتلتقي في مكة المكرمة، حيث تتلاشى الفوارق وتذوب الألقاب، ويتجلّى أمام العيون معنى الأمة الواحدة، ففي موسم الحج، لا تُسأل عن وطنك، ولا عن لغتك، ولا عن مستواك الاجتماعي، فالجميع هنا "حاج"، فهو الاسم الجامع الذي يسبق كل تعريف آخر، والجميع يلبسون البياض ذاته، يقفون في الصف ذاته، يتوجهون إلى القبلة ذاتها، ويؤدون الشعائر نفسها.
الأمة الواحدة في موسم الحج.. دروس في التلاحم والتعاون
منذ لحظة الإحرام، تبدأ أولى مشاهد الوحدة الكبرى، حيث يخلع الإنسان عن جسده كل مظاهر التمييز، لا ثوب فخم ولا علامة منصب ولا لون خاص، بل قطعتان من قماش أبيض لا فرق فيهما بين غني وفقير، ولا بين مسؤول وعامل، مما يجسد المعنى الأعمق لأخوة الإسلام، حيث القيمة الوحيدة المعتبرة هي التقوى والعمل الصالح.
وفي موسم الحج، لا تحتاج إلى ترجمة لتفهم المشهد، فالطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، كلها أفعال موحّدة، تكرّرها ملايين الألسن والأقدام في تناغم بديع، ورغم اختلاف الجنسيات، فإن دعاء الحجيج يكاد يكون متشابهًا “اللهم اغفر، اللهم ارحم، اللهم أصلح أحوال المسلمين”، وفي يوم عرفة تحديدًا، حين تمتد الأيدي وتُرفع الأصوات، تشعر بأن العالم الإسلامي كله اجتمع في صعيد واحد، يشتكي ويأمل ويُجدّد العهد مع الله على الإصلاح والخير.

وتمتد رمزية مناسك الحج لتكون درسًا في الإدارة والانضباط والتعاون، فالحجاج يمشون في مسارات محددة، يلتزمون بالتعليمات، يشاركون بعضهم الماء والمأوى، ويعينون الضعيف والضائع، وكلها قيم يحتاجها العالم الإسلامي في كل مجالاته.
ففي كل شعيرة من شعائر الحج، يتجسد مفهوم الوحدة، عندما يطوف الحجاج حول الكعبة، جميعهم في حركة دائرية واحدة، يخطون نفس الخطوات في نفس الاتجاه، وكأنهم جسد واحد يحيي مشاعر الطاعة والاتحاد، كذلك في السعي بين الصفا والمروة، حيث يطوفون في مسارات متقاربة متزامنة، لا فرق بينهم، وكأنهم يشتركون في رحلة روحانية تعكس تكاملهم وانسجامهم.
ومن أبرز مظاهر الأمة الواحدة في موسم الحج، التعاون والتضامن بين الحجاج، حيث يتعاون الحجاج في توزيع المياه وإعانة المرضى وحمل الأمتعة ومساعدة من يواجه صعوبة في التنقل، ولا يتوانى الحاج عن تقديم يد العون لأخيه، رغم اختلاف اللغات، وكأن العناية بالآخر جزء من العبادة.
وفي يوم العيد، تتوحد أصوات الحجاج في تكبيرات العيد، مُعلنين وحدة الأمة، وتوحيد الله في صعيد واحد، حيث تردد الجموع صدى التكبير في السماء، ويشعر الجميع أن صوته جزء من أصوات الملايين الذين يشتركون في هذه الشعيرة.
0 تعليق