الأرض لن تتكلم العبرية

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في قلب اللغة، تنبض الجغرافيا.. فالكلمات ليست محض أصواتٍ عابرة في الهواء، بل جذورٌ تنغرس في التربة، ودماء تسري في عروق الجبال، وأسماء تتناسل من وجع الغزاة وحنين الراحلين. ومنذ أن هبطت الكلمات من أفواه الأنبياء على تراب فلسطين، كانت الأرضُ هناك تتكلم العربية. لا بوصفها لغةً فحسب، بل كوجدان، وتاريخ، وسؤالٍ عن العدالة.

"الأرض لن تتكلم عبري"، ليست جملةً انفعالية ولا شعارًا يردده المنكوبون على الأرصفة، بل هي يقينٌ جغرافيّ، وروحٌ لا تقبل الترجمة القسرية. إن اللغة العبرية، وإن حاولت أن تستوطن أسماء الجبال، وأن تلبس الشوارعَ حروفًا مستوردة، تبقى دخيلةً على حكايات الزيتون، لا تعرف أسماء الشهداء، ولا تفهم حزن الغصون حين تُقلع.

في كل محاولة لتهويد الأرض، ثمّة عنفٌ يمارس ضد الذاكرة. العبرية هنا ليست لغة بريئة، بل مشروعٌ استعماريّ يطمح لأن يعيد كتابة التاريخ بأبجديةٍ لا تعرف كيف تُلفظ كلمة مخيم. إن الطفل الذي وُلد في المخيم، يحفظ أسماء القرى الممحوة كما تحفظ الأم اسم رضيعها، ولا يحتاج لخرائط؛ فذاكرته ترسمها كلما سمع "يافا"، أو "اللد"، أو "صفد".

اللغة لا تنبت من فراغ. كل شجرة زيتون في فلسطين تهمس بالعربية، كل حجارة بيت قديم تقول "مرّوا من هنا فخلّدنا أسماءهم"، وكل مقبرة ترفض أن تُترجم شواهدها. حتى الصمت في فلسطين عربيّ، حتى التراب له لكنة.

يحاول المشروع الصهيوني أن يقنعنا أن الأرض يمكن أن تُعاد تسميتها، كما تُعاد تسمية الشوارع في مدينة محتلة. لكن ما لا يفهمه المستعمر، هو أن اللغة ليست لافتة يمكن تغييرها، بل تاريخٌ طويلٌ من النطق، من الحكايات، من القصائد التي قيلت في خلوات العشاق، وفي رسائل الأسرى، وفي وصايا الأمهات.

لقد تكلمت فلسطين العربية على لسان المتنبي حين حلم بالفروسية، وعلى لسان درويش حين كتب: سجّل أنا عربي. تكلمت حين صمت العالم، وحين تغيّرت الأعلام. الأرض لا تبيع ذاكرتها، ولا تخون كلماتها الأولى. وحتى حين تتكلم بالصمت، فصمتها لا يُترجم.

يستطيع الغازي أن يغيّر أسماء القرى في الخرائط، لكنه لا يستطيع أن يمحو اللغة من القلوب. يستطيع أن يبني جدارًا، لكنه لن يمنع القصيدة من العبور. يستطيع أن يهدم البيوت، لكنه لن يهدم المجاز.. العبرية، مهما حاولت، لن تكون لغة هذه الأرض. فهذه الأرض عرفت العربية قبل أن تُسطر الحروف، وحين تلفظ أسماءها، تلفظها بحنينها، برائحتها، بدمها.

وإذا كان من شيءٍ يُجسّد فشل الاستعمار في الهيمنة، فهو اضطراره لتعلّم لغة من يحتلهم، لا العكس. كل جندي يقف على حاجز، يرتجف حين يصرخ طفلٌ بغضبٍ عربيّ. كل مستوطنٍ يزرع شجرةً هجينة، يعرف أنها لا تشبه الزيتون الذي عمره ألف عام.

الأرض لا تتكلم عبري لأن عبريتها مفروضة، مزيفة، ملوّنة بطلاء الاحتلال. أما العربية، فهي تنبع من أعماقها، وتتشكل من ماء البحر، ومن أسماء الغائبين الذين تركوا مفاتيحهم معلقةً في حيطان الذاكرة.

في النهاية، حين تهدأ البنادق، وحين تسقط الأقنعة، ستتكلم الأرض. وستقول، بلغة واضحة، مفهومة، لا تحتاج إلى ترجمة:

"هنا كانت الحياة تُكتب بالعربية... ولا تزال."

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق