في روايته الشيقة والممتعة "البشر"، قدّم الكاتب البريطاني "مات هيج" واحدة من أذكى تأملاته في الإنسان، من خلال عين كائن فضائي يُدعى “أندرو مارتن”، أُرسل متنكرًا في جسد بشري، لمهمة سرية، بهدف إيقاف اختراع بشري عظيم، قد يهدد توازن الكون. فراقب، بعين باردة، تفاصيل الحياة البشرية، وبسخرية لاذعة، يبدأ “أندرو” في اكتشاف هذا الكوكب، بداية من اللقاء الأول مع زوجته، التى تُدعى “إيزوبل”، وروى، ببرود فضائي، وسخرية لاذعة، انطباعه الأول عن زوجته، حيث حلل كل تفاصيل مظهرها وتصرفاتها، كمعادلة رياضية معقدة، قال:
وجدتها قبيحة، أخافتني... كنت خائفًا من كل شيء هنا، الوجود على الأرض مرعب، حتى مشاهدة يدي أخافتني أيضًا، لكن، على أي حال، زوجتي “إيزوبل”، حين شاهدتها أول مرة، لم أشاهد شيئًا فيها غير تريليون خلية متناهية الحجم، سيئة الترتيب، وجهها شاحب، عيناها متعبتان، أنفها بارز.
ومع ذلك، كان هناك أمر صادق ومتوازن فيها؛ احترازها أشد من الآخرين، جفّ فمي من مجرد النظر إليها، أفترض لو أن هناك تحدّيًا سأواجهه مع هذه الإنسانة تحديدًا، فهو معرفتها معرفة تامة، وقضاء وقت أكبر معها، لأتحصّل على المعلومة التي أحتاج إليها، قبل تنفيذ مهمتي...
جاءت زوجتي لتراني في غرفتي، أثناء مراقبة الممرّضة لي، كان بلا شك اختبارًا آخر؛ جلّ حياة الإنسان هنا، على الأرض، عبارة عن اختبار، وهذا يُعلل التعاسة على وجوههم.
خشيت أن تعانقني زوجتي، أو تقبّلني، أو تنفخ الهواء في أذني، أو تفعل أيًّا من تلك الأمور التي أخبرتني عنها المجلة، لكنها لم تفعل، لم يظهر أنها تريد فعل ذلك، ما أرادت فعله، هو الجلوس هناك، والتحديق إليّ، كأني الجذر التربيعي لرقم 912،673، وتحاول حلي.
لقد جلست بظهرٍ مفرود على كرسيها، وكانت رقبتها طويلة، كما لو أن رأسها قد وقع على جسدها، ولم يكن يريد أن يفعل شيئًا أكثر من ذلك، اكتشفت لاحقًا أنها في الحادية والأربعين من عمرها، ومظهرها يُصنَّف على أنه جميل في هذا الكوكب، أو على الأقل مقبول.
تنفّست بعمق، ثم سألتني:
– كيف حالك؟
قلت:
– لا أعرف، لا أتذكر أشياء كثيرة، ذهني مشوش، خاصة في الصباح. اسمعي، هل دخل أي شخص مكتبي؟ منذ البارحة؟
أربكها سؤالي..
– لا أعرف، كيف لي أن أعرف؟ لا أعتقد أن أحدًا سيدخله في عطلة نهاية الأسبوع، وعلى أي حال، أنتَ الوحيد الذي يملك المفاتيح.
من فضلك، أندرو، أخبرني ماذا حدث؟ هل تعرضت لحادث؟ هل اختبروا فقدانك الذاكرة؟ ما سبب خروجك من المنزل في ذلك الوقت؟ أخبرني بما كنت تفعل، استيقظت ولم أجدك..
أومأتُ برأسي، أرادت إجابات، وليس عندي إلا الأسئلة.
مالت زوجتي “إيزوبل” نحوي أكثر، وأخفضت صوتها، وقالت:
– يعتقدون أنك قد عانيت انهيارًا عقليًا، لا يسمونه كذلك بالطبع، لكن هذا ما يعتقدونه، سألوني أسئلة كثيرة، كان الأمر أشبه بمواجهة كبير المحققين.
حدّقتُ فيها مرة أخرى، وسألتها أسئلة أخرى: لماذا تزوجنا؟ ما هدف الزواج؟ ما القواعد التي ينطوي عليها؟ أسئلة محددة، حتى على كوكبٍ مصمَّمٍ للأسئلة، لم يسمعوا بها.
وفي قلب هذه المشاهد البسيطة، يُجسّد “مات هيج”، عبر “أندرو مارتن”، المفارقة الكبرى بين البرود العلمي، والهبّة الإنسانية، فبينما يلاحِظ الفضائي كل تفصيلة، بعينٍ لا تشوبها العاطفة، تكمن قوة النص في فتح نافذة على هشاشتنا العاطفية، والأخلاقية.
هنا، تتبدى العلاقة الزوجية، كمعادلة معقدة، لا تحلّها الحسابات الباردة، بل تتطلب القبول والثقة، وهما أكثر ما يثير الفضول في كائنٍ من عالم آخر، لكن، برغم حساباته الباردة، وتساؤلاته العلمية الصارمة، يتبدّى في قلب هذا اللقاء، بزوغ تصدعٍ في برود هذا الكائن الفضائي، وكأنّ دفء إنسانيتها، قد بدأ في التسلل من خلال تلك النظرات المتبادلة بينهما.
الأسبوع القادم، بإذن الله، أكمل القراءة فى رواية "البشر"، للكاتب البريطاني "مات هيج"
0 تعليق